البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

{ ثم أورثنا الكتاب } ، وثم قيل : بمعنى الواو ، وقيل : للمهلة ، إما في الزمان ، وإما في الإخبار على ما يأتي بيانه .

والكتاب فيه قولان ، أحدهما : أن المعنى : أنزلنا الكتب الإلهية ، والكتاب على هذا اسم جنس .

والمصطفون ، على ما يأتي بيانه أن المعنى : الأنبياء وأتباعهم ، قاله الحسن .

وقال ابن عباس : هم هذه الأمة ، أورثت أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، كل كتاب أنزله الله .

وقال ابن جرير : أورثهم الإيمان ، فالكتب تأمر باتباع القرآن ، فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها ، يدل عليه : { والذين أوحينا إليك من الكتاب هو الحق } ، ثم أتبعه بقوله : { ثم أورثنا الكتاب } ، فعلمنا أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ كان معنى الميراث : انتقال شيء من قوم إلى قوم ، ولم تكن أمة انتقل إليها كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته .

فإذا قلنا : هم الأنبياء وأتباعهم ، كان المعنى : أورثنا كل كتاب أنزل على نبي ، ذلك النبي وأتباعه .

والقول الثاني : أن الكتاب هو القرآن ، والمصطفون أمة الرسول ، ومعنى أورثنا ، قال مجاهد : أعطينا ، لأن الميراث عطاء .

ثم قسم الوارثين إلى هذه الأقسام الثلاثة ، قال مكي : فقيل هم المذكرون في الواقعة .

فالسابق بالخيرات هو المقرب ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والظالم لنفسه أصحاب المشأمة ، وهو قول يروى معناه عن عكرمة والحسن وقتادة ، قالوا : الضمير في منهم عائد على العباد .

فالظالم لنفسه الكافر والمنافق ، والمقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقي على الإطلاق ، وقالوا : هو نظير ما في الواقعة .

والأكثرون على أن هؤلاء الثلاثة هم في أمة الرسول ، ومن كان من أصحاب المشأمة مكذباً ضالاً لا يورث الكتاب ولا اصطفاه الله ، وإنما الذي في الواقعة أصناف الخلق من الأولين والآخرين .

قال عثمان ابن عفان : سابقنا أهل جهاد ، ومقتصدنا أهل حضرنا ، وظالمنا أهل بدونا ، لا يشهدون جمعة ولا جماعة .

وقال معاذ : الظالم لنفسه : الذي مات على كبيرة لم يتب منها ، والمقتصد : من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها ، والسابق : من مات نائباً عن كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك .

وقيل : الظالم لنفسه : العاصي المسرف ، والمقتصد : متقي الكبائر ، والسابق : المتقي على الإطلاق .

وقال الحسن : الظالم : من خفت حسناته ، والمقتصد : من استوت ، والسابق : من رجحت .

وقال الزمخشري : قسمهم إلى ظالم مجرم ، وهو المرجأ لأمر الله ، ومقتصد ، وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ؛ وسابق ، من السابقين . انتهى .

وذكر في التجريد ثلاثة وأربعين قولاً في هؤلاء الأصناف الثلاثة .

وقرأ أبو عمران الحوفي ، وعمر ابن أبي شجاع ، ويعقوب في رواية ، والقرآءة عن أبي عمر و : سباق ؛ والجمهور .

سابق ، قيل : وقدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله .

وقال الزمخشري : للإيذان بكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم ، وأن المقتصد قليل بالإضافة إليهم ، والسابقون أقل من القليل . انتهى .

{ بإذن الله } : بتيسيره وتمكنه ، أي أن سبقه ليس من جهة ذاته ، بل ذلك منه تعالى .

والظاهر أن الإشارة بذلك الى إيراث الكتاب واصطفاء هذه الأمة .