فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } المفعول الأوّل لأورثنا الموصول ، والمفعول الثاني الكتاب ، وإنما قدّم المفعول الثاني لقصد التشريف ، والتعظيم للكتاب ، والمعنى ثم أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب ، وهو القرآن ، أي قضينا ، وقدّرنا بأن نورث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك ، ومعنى اصطفائهم : اختيارهم واستخلاصهم ، ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة ، فمن بعدهم قد شرفهم الله على سائر العباد ، وجعلهم أمة وسطاً ؛ ليكونوا شهداء على الناس ، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء ، وسيد ولد آدم . قال مقاتل : يعني : قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا . وقيل : إن المعنى أورثناه من الأمم السالفة ، أي : أخرناه عنهم ، وأعطيناه الذين اصطفينا ، والأوّل أولى . ثم قسم سبحانه هؤلاء الذي أورثهم كتابه ، واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام ، فقال : { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } قد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية ، لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم ، وهو من اصطفاهم من العباد ، فكيف يكون من اصطفاه الله ظالماً لنفسه ؟ فقيل : إن التقسيم هو راجع إلى العباد ، أي فمن عبادنا ظالم لنفسه ، وهو : الكافر ، ويكون ضمير { يدخلونها } عائداً إلى المقتصد والسابق . وقيل : المراد بالظالم لنفسه هو المقصر في العمل به ، وهو المرجأ لأمر الله ، وليس من ضرورة ورثة الكتاب مراعاته حقّ رعايته ، لقوله : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب } [ الأعراف : 169 ] ، وهذا فيه نظر ، لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء . وقيل : الظالم لنفسه : هو الذي عمل الصغائر ، وقد روي هذا القول عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وأبي الدرداء ، وعائشة ، وهذا هو الراجح ، لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء ، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور من ذهب إلى آخر ما سيأتي . ووجه كونه ظالماً لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له ، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظاً عظيماً .

وقيل : الظالم لنفسه هو صاحب الكبائر .

وقد اختلف السلف في تفسير السابق والمقتصد ، فقال عكرمة ، وقتادة ، والضحاك : إن المقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقيّ على الإطلاق ، وبه قال الفراء ، وقال مجاهد في تفسير الآية : { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } أصحاب المشأمة { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } أصحاب الميمنة { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } السابقون من الناس كلهم . وقال المبرد : إن المقتصد هو الذي يعطي الدنيا حقها ، والآخرة حقها . وقال الحسن : الظالم الذي ترجح سيآته على حسناته ، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته ، والسابق من رجحت حسناته على سيآته . وقال مقاتل : الظالم لنفسه أصحاب الكبائر من أهل التوحيد ، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة ، والسابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة . وحكى النحاس : أن الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته ، فتكون جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير ، قال : وهذا قول جماعة من أهل النظر ، لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى . وقال الضحاك . فيهم ظالم لنفسه ، أي من ذرّيتهم ظالم لنفسه . وقال سهل بن عبد الله : السابق العالم ، والمقتصد المتعلم ، والظالم لنفسه الجاهل . وقال ذو النون المصري : الظالم لنفسه الذاكر لله بلسانه فقط ، والمقتصد الذاكر بقلبه ، والسابق الذي لا ينساه . وقال الأنطاكي : الظالم صاحب الأقوال ، والمقتصد صاحب الأفعال ، والسابق صاحب الأحوال . وقال ابن عطاء : الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا ، والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى ، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحقّ . وقيل : الظالم الذي يعبد الله خوفاً من النار ، والمقتصد الذي يعبده طمعاً في الجنة ، والسابق الذي يعبده لا لسبب . وقيل : الظالم الذي يحبّ نفسه ، والمقتصد الذي يحبّ دينه ، والسابق الذي يحبّ ربه . وقيل : الظالم الذي ينتصف ولا ينصف ، والمقتصد الذي ينتصف ، وينصف ، والسابق الذي ينصف ولا ينتصف وقد ذكر الثعلبي ، وغيره أقوالاً كثيرة ، ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم ، والمقتصد ، والسابق معروفة ، وهو يصدق على الظلم للنفس بمجرّد إحرامها للحظ ، وتفويت ما هو خير لها ، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوّتها من الثواب ، وإن كان قائماً بما أوجب الله عليه تاركاً لما نهاه الله عنه ، فهو من هذه الحيثية من اصطفاه الله ، ومن أهل الجنة ، فلا إشكال في الآية ، ومن هذا قول آدم : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] ، وقول يونس : { إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] ، ومعنى المقتصد : هو من يتوسط في أمر الدين ، ولا يميل إلى جانب الإفراط ، ولا إلى جانب التفريط ، وهذا من أهل الجنة ، وأما السابق فهو الذي سبق غيره في أمور الدين ، وهو خير الثلاثة .

وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد ، وتقديمهما على السابق مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه ، والسابق أفضل منهما ، فقيل : إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله : { لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار وأصحاب الجنة } [ الحشر : 20 ] ، ونحوها من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشرّ على أهل الخير ، وتقديم المفضولين على الفاضلين . وقيل : وجه التقديم هنا : أن المقتصدين بالنسبة إلى أهل المعاصي قليل ، والسابقين بالنسبة إلى الفريقين أقلّ قليل ، فقدّم الأكثر على الأقلّ ، والأوّل أولى ، فإن الكثرة بمجرّدها لا تقتضي تقديم الذكر . وقد قيل : في وجه التقديم غير ما ذكرنا مما لا حاجة إلى التطويل به .

والإشارة بقوله { ذلك } إلى توريث الكتاب والاصطفاء . وقيل : إلى السبق بالخيرات ، والأوّل أولى ، وهو مبتدأ وخبره { هُوَ الفضل الكبير } أي الفضل الذي لا يقادر قدره .

/خ35