{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } المفعول الأوّل لأورثنا الموصول ، والمفعول الثاني الكتاب ، وإنما قدّم المفعول الثاني لقصد التشريف ، والتعظيم للكتاب ، والمعنى ثم أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب ، وهو القرآن ، أي قضينا ، وقدّرنا بأن نورث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك ، ومعنى اصطفائهم : اختيارهم واستخلاصهم ، ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة ، فمن بعدهم قد شرفهم الله على سائر العباد ، وجعلهم أمة وسطاً ؛ ليكونوا شهداء على الناس ، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء ، وسيد ولد آدم . قال مقاتل : يعني : قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا . وقيل : إن المعنى أورثناه من الأمم السالفة ، أي : أخرناه عنهم ، وأعطيناه الذين اصطفينا ، والأوّل أولى . ثم قسم سبحانه هؤلاء الذي أورثهم كتابه ، واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام ، فقال : { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } قد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية ، لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم ، وهو من اصطفاهم من العباد ، فكيف يكون من اصطفاه الله ظالماً لنفسه ؟ فقيل : إن التقسيم هو راجع إلى العباد ، أي فمن عبادنا ظالم لنفسه ، وهو : الكافر ، ويكون ضمير { يدخلونها } عائداً إلى المقتصد والسابق . وقيل : المراد بالظالم لنفسه هو المقصر في العمل به ، وهو المرجأ لأمر الله ، وليس من ضرورة ورثة الكتاب مراعاته حقّ رعايته ، لقوله : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب } [ الأعراف : 169 ] ، وهذا فيه نظر ، لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء . وقيل : الظالم لنفسه : هو الذي عمل الصغائر ، وقد روي هذا القول عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وأبي الدرداء ، وعائشة ، وهذا هو الراجح ، لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء ، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور من ذهب إلى آخر ما سيأتي . ووجه كونه ظالماً لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له ، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظاً عظيماً .
وقيل : الظالم لنفسه هو صاحب الكبائر .
وقد اختلف السلف في تفسير السابق والمقتصد ، فقال عكرمة ، وقتادة ، والضحاك : إن المقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقيّ على الإطلاق ، وبه قال الفراء ، وقال مجاهد في تفسير الآية : { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } أصحاب المشأمة { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } أصحاب الميمنة { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } السابقون من الناس كلهم . وقال المبرد : إن المقتصد هو الذي يعطي الدنيا حقها ، والآخرة حقها . وقال الحسن : الظالم الذي ترجح سيآته على حسناته ، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته ، والسابق من رجحت حسناته على سيآته . وقال مقاتل : الظالم لنفسه أصحاب الكبائر من أهل التوحيد ، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة ، والسابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة . وحكى النحاس : أن الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته ، فتكون جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير ، قال : وهذا قول جماعة من أهل النظر ، لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى . وقال الضحاك . فيهم ظالم لنفسه ، أي من ذرّيتهم ظالم لنفسه . وقال سهل بن عبد الله : السابق العالم ، والمقتصد المتعلم ، والظالم لنفسه الجاهل . وقال ذو النون المصري : الظالم لنفسه الذاكر لله بلسانه فقط ، والمقتصد الذاكر بقلبه ، والسابق الذي لا ينساه . وقال الأنطاكي : الظالم صاحب الأقوال ، والمقتصد صاحب الأفعال ، والسابق صاحب الأحوال . وقال ابن عطاء : الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا ، والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى ، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحقّ . وقيل : الظالم الذي يعبد الله خوفاً من النار ، والمقتصد الذي يعبده طمعاً في الجنة ، والسابق الذي يعبده لا لسبب . وقيل : الظالم الذي يحبّ نفسه ، والمقتصد الذي يحبّ دينه ، والسابق الذي يحبّ ربه . وقيل : الظالم الذي ينتصف ولا ينصف ، والمقتصد الذي ينتصف ، وينصف ، والسابق الذي ينصف ولا ينتصف وقد ذكر الثعلبي ، وغيره أقوالاً كثيرة ، ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم ، والمقتصد ، والسابق معروفة ، وهو يصدق على الظلم للنفس بمجرّد إحرامها للحظ ، وتفويت ما هو خير لها ، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوّتها من الثواب ، وإن كان قائماً بما أوجب الله عليه تاركاً لما نهاه الله عنه ، فهو من هذه الحيثية من اصطفاه الله ، ومن أهل الجنة ، فلا إشكال في الآية ، ومن هذا قول آدم : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] ، وقول يونس : { إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] ، ومعنى المقتصد : هو من يتوسط في أمر الدين ، ولا يميل إلى جانب الإفراط ، ولا إلى جانب التفريط ، وهذا من أهل الجنة ، وأما السابق فهو الذي سبق غيره في أمور الدين ، وهو خير الثلاثة .
وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد ، وتقديمهما على السابق مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه ، والسابق أفضل منهما ، فقيل : إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله : { لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار وأصحاب الجنة } [ الحشر : 20 ] ، ونحوها من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشرّ على أهل الخير ، وتقديم المفضولين على الفاضلين . وقيل : وجه التقديم هنا : أن المقتصدين بالنسبة إلى أهل المعاصي قليل ، والسابقين بالنسبة إلى الفريقين أقلّ قليل ، فقدّم الأكثر على الأقلّ ، والأوّل أولى ، فإن الكثرة بمجرّدها لا تقتضي تقديم الذكر . وقد قيل : في وجه التقديم غير ما ذكرنا مما لا حاجة إلى التطويل به .
والإشارة بقوله { ذلك } إلى توريث الكتاب والاصطفاء . وقيل : إلى السبق بالخيرات ، والأوّل أولى ، وهو مبتدأ وخبره { هُوَ الفضل الكبير } أي الفضل الذي لا يقادر قدره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.