لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

قوله جل ذكره : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } .

{ أَوْرَثْنَا } : أي أعطينا الكتاب - أي القرآن - الذين اصطفينا من عبادنا ، وذكر الإعطاءَ بلفظِ الإِرثِ توسُّعاً .

{ اصْطفَيْنَا } : أي اخترنا . ثم ذكر أقسامَهم ، وفي الخبر أنه لمَّا نزلت هذه الآية قال عليه السلام : " أمتي وربِّ الكعبة " ثلاث مرات .

وفي الآية وجوهٌ من الإشارة : فمنها أنه لمَّا ذكر هذا بلفظ الميراثِ فالميراثُ يقتضى صحة النَّسَبِ على وجهٍ مخصوص ، فَمَنْ لا سبَبَ له فلا نَسَبَ له ، ولا ميراثَ له .

ومحلُّ النَّسبِ ها هنا المعرفة ، ومحلُّ السبب الطاعة . وإن قيل محلُّ النَّسبِ فَضْلُه ، ومحل السبب فِعْلُك ؛ فهو وَجْهٌ . ويصحُّ أن يقال محلُّ النسبِ اختياره لك بدءاً ومحلُّ السببِ إحسانُه لك تالياً .

ويقال أهلُ النسب على أقسام : - الأقوى ، والأدنى كذلك في الاستحقاق .

ويقال جميع وجوه التملُّك لا بُدَّ فيها من فعْل للعبد كالبيع ، أَمَّا ما يُمْلَك ُ بالهِبَةَ فلا يحصل إلا بالقبول والقسمة ، ولا يحصل الاستحقاق إلا بالحضور والمجاهدة وغير ذلك . والوصية لا تُسْتَحقُّ إلا بالقبول ، وفي الزكاة لا بُدَّ من قبول أهل السُّهْمَانِ ، والميراث لا يكون فيه شيء من جهة الوارث وفعله ، والنَّسبُ ليس من جملة أفعاله .

ويقال الميراث يُسْتَحقُّ بوجهين : بالفرض والتعصيب ، والتعصيبُ أقوى من الفرض ؛ لأنه قد يستحق به جميع المال ، ثم الميراث يبدأ بذوي الفروض ثم ما يتبقى فللعَصَبَةِ .

{ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } : تكلموا في الظالم ، فمنهم من قال هو الأَفضل ، وأرادوا به من ظَلَمَ نَفْسَه لكثرة ما حَمَّلَها من الطاعة .

والأَكثرون : إنَّ السابقَ هو الأفضل ، وقالوا : التقديم في الذكر لا يقتضي التقديم في الرتبة ، ولهذا نظائر كثيرة .

ويقال قَرَنَ باسم الظالم قرينةً وهي قوله : " لنفس " ، وقرن باسم السابق قرينةً وهي قوله : { بِإِذْنِ اللَّهِ } ؛ فالظالمُ كانت له زَلَّة ، والسابق كانت له صولة ، فالظالم رَفَعَ زلَّتَه بقوله : لنفسه ، والسابق كَسَرَ صولتَه بقوله : بإذن الله .

كأنه قال : يا ظالمُ ارفعْ رأسَك ، ظَلَمْتَ ولكن على نفسك ، ويا سابقُ اخفض رأسَك ؛ سَبَقْتَ - ولكن بإذن الله .

ويقال إنَّ العزيزَ إذا رأى ظالماً قَصَمَه ، والكريمَ إذا رأى مظلوماً أَخَذَ بيده ، كأنه قال : يا ظالم ، إِنْ كان كونُكَ ظالماً يوجِبُ قَهْرَك ، فكوْنُكَ مظلوماً يوجِبُ الأخذَ بيدك .

ويقال الظالمُ مَنْ غَلَبَتْ زَلاَّتُه ، والمقتصدُ مَنْ استوت حالاته ، والسابقُ مَنْ زادت حسناته .

ويقال الظالمُ مَنْ زهد في دنياه ، والمقتصدُ مَنْ رغب في عقباه ، والسابقُ مَنْ آثر على الدارين مولاه .

ويقال الظالمُ مَنْ نَجَمَ كوكبُ عقله ، والمقتصدُ مَنْ طَلَعَ بَدْرُ عِلْمه ، والسابقُ من ذَرَّتَ شمسُ معرفته .

ويقال الظالمُ مَنْ طَلَبَه ، والمقتصدُ مَنْ وَجَدَه ، والسابق مَنْ بقي معه .

ويقال الظالِمُ مَنْ تَرَكَ المعصية ، والمقتصد مَنْ تَرَكَ الغفلة ، والسابق مَنْ تَرَك العلاقة .

ويقال الظالمُ مَنْ جاد بمالِه ، والمقتصد مَنْ لم يبخلْ بِنفْسِه ، والسابق مَنْ جاد بروحه .

ويقال الظالمُ مَنْ له علم اليقين ، والمقتصد مَنْ له عين اليقين ، والسابق مَنْ له حق اليقين .

ويقال الظلم صاحب المودة ، والمقتصد الخلّة ، والسابق صاحب المحبة .

ويقال الظالم يترك الحرام ، والمقتصد يترك الشُّبهة ، والسابق يترك الفضل في الجملة .

ويقال الظالمُ صاحبُ سخاء ، والمقتصد صاحب جود ، والسابق صاحب إيثار .

ويقال الظالم صاحب رجاء ، والمقتصدُ صاحبُ بَسْط ، والسابق صاحب أُنْس .

ويقال الظالم صاحب خوف ، والمقتصد صاحب خشية ، والسابق صاحب هيبة .

ويقال الظالم له المغفرة ، والمقتصد له الرحمة والرضوان ، والسابق له القربة والمحبة .

ويقال الظالم صاحب الدنيا ، والمقتصد طالب العُقْبى ، والسابق طالب المولى .

ويقال الظالم طالب النجاة ، والمقتصد طالب الدرجات ، والسابق صاحب المناجاة .

ويقال الظالم أَمِنَ من العقوبة ، والمقتصد فاز بالمثوبة ، والسابق متحقق بالقربة .

ويقال الظالم مضروبٌ بسَوْطِ الحِرْصِ ، مقتولٌ بسيف الرغبة ، مضطجع على باب الحسرة . والمقتصدُ مضروبٌ بسوط الندامة ، مقتولٌ بسيف الأسف ، مضطجع على باب الجود .

والسابقُ مضروبٌ بسوط التواجد ، مقتول بسيف المحبة ، مُضْطَجِعٌ على باب الاشتياق .

ويقال الظالم صاحب التوكل ، والمقتصد صاحب التسليم ، والسابق صاحب التفويض .

ويقال الظالم صاحب تواجد ، والمقتصد صاحب وَجْد ، والسابق صاحب وجود .

ويقال الظالم صاحبُ المحاضرة ، والمقتصد صاحب المكاشفة ، والسابق صاحب المشاهدة .

ويقال الظالم يراه في الآخرة بمقدار أيام الدنيا في كل جمعة مرةَ ، والمقتصد يراه في كل يوم مرةً ، والسابق غر محجوبٍ عنه ألبتةَ .

ويقال الظالم مجذوبٌ إلى فِعْلِه الذي هو فضله ، والمقتصد مكاشَفٌ بوصفه الذي هو عِزُّه ، والسابقُ المستهلَكُ في حقِّه الذي هو وُجُودُه .

قوله : { ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } لأنه ذكر الظالم مع السابق .