الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا } هذا { الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } ، ويجوز أن تكون { ثُمَّ } بمعنى الواو أي ( وأورثنا ) كقوله :

{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ } [ البلد : 17 ] أي وكان ومعنى و { أَوْرَثْنَا } : أعطينا ؛ لأنّ الميراث عطاء ، قاله مجاهد ، وقال بعض أهل المعاني : { أَوْرَثْنَا } أي أخرنا ، ومنه الميراث ؛ لأنه تأخر عن الميت ومعناه : أخرنا القرآن عن الأُمم السالفة وأعطيناكموه وأهّلناكم له ، وقال عنترة :

وأورثت سيفي عن حصين بن معقل *** إلى جده إني لثأري طالب

أي أخرت ، وفي هذا كرامة لأُمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال لهم : { أَوْرَثْنَا } وقال : لسائر الأُمم

{ وَرِثُواْ الْكِتَابَ } [ الأعراف : 169 ] الآية يعني القرآن .

{ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } وهم أمة محمد( صلى الله عليه وآله وسلم ) . ثم قسمهم ثلاث طبقات ورتبهم على ثلاث درجات فقال الله تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } قيّد اللفظ وعَلّق الظلم بالنفس ؛ فلذلك ساغ أن يكون من أهل الاصطفاء مع ظلمه .

فإن قيل : ما وجه الحكمة في تقديم الظالم وتأخير السابق وإنما يقدم الأفضل ؟

فالجواب عنه أن نقول : إنما أُخر السابق ليكون أقرب إلى الجنان والثواب ، كما قدم الصوامع والبيع والصلوات في سورة الحج على المساجد التي هي أفضل بقاع الأرض ، فتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله تعالى .

ومنهم من قال : إنما جعل ذلك ؛ لأن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى على الأفضل . كقوله تعالى :

{ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الرعد : 6 ]

{ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 165 ] [ الأعراف : 167 ] ، وقال :

{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ } [ الحج :61 ] ، وقال :

{ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ } [ الشورى : 49 ] وقال :

{ خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } [ الملك : 2 ] .

وقيل : قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته وأخر السابق لئلا يعجب بعمله .

وقال جعفر الصادق ( عليه السلام ) : «بدأ بالظالم إخباراً أنه لا يتقرب إليه إلاّ بصرف رحمته وكرمه ، وأنّ الظلم لا يؤثّر في الاصطفائية ثم ثنى بالمقتصدين ؛ لأنهم بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله وكلّهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص » .

وقال بعضهم : قدم الظالم ؛ لأنه لم يكن له شيء يتكل عليه إلاّ رحمة الله فاعتمد على الله واتكل على رحمته واتكل المقتصد على حسن ظنه بربه واتكل السابق على حسناته وطاعته .

وقال محمد بن علي الترمذي : جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء ؛ لأنّ الاصطفاء أوجب الإرث لا الإرث أوجب الاصطفاء ؛ لذلك قيل : صحح النسبة ثم اطمع في الميراث .

وقال أبو بكر الوراق : إنما رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس ؛ لأنّ أحوال العبد ثلاث : معصية ، وغفلة ، ثم توبة وقربة .

فإذا عصى دخل في حيّز الظالمين ، وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة اتصل بالله ودخل في عداد السابقين .

واختلف المفسرون والمتأوّلون في معنى الظالم والمقتصد والسابق فأكثروا ، وأنا ذاكر نصوص ما قالوا وبالله التوفيق :

أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد بن الحسين بن عبد الله الحافظ ، قال : حدّثنا برهان ابن علي الصوفي والفضل بن الفضل الكندي قالا : أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب قال : حدثنا محمد بن كثير قال : أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي ثابت أنّ رجلاً دخل المسجد فقال : اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي ويسر لي جليساً صالحاً . قال أبو الدرداء : لئن كنت صادقاً لأنا أسعد بذلك منك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ } ، فقال : " أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيُحاسب حساباً يسيراً ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثم يدخل الجنة ، فهم [ الذين ] قالوا : { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . . . } إلى قوله : { لُغُوبٌ } " .

قال الكندي والأعمش عن رجل عن أبي ثابت : وأخبرني الحسين بن محمد قال : أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدّثني أبي عن إسحاق بن عيسى حدّثني أنس بن عياض الليثي أبو ضمرة عن موسى بن عتبة عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله عز وجل : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ } ، فأما الذين سبقوا بالخيرات فأُولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وأما الذين اقتصدوا فأُولئك يحاسبون حساباً يسيراً ، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأُولئك الذين يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين تلقّاهم الله برحمته فهم الذين يقولون : { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } إلى قوله : { لُغُوبٌ } " .

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن سمعان الذرار قال : حدّثنا يوسف بن يعقوب بن الحسن المقرئ بواسط قال : حدّثنا محمّد بن خالد بن عبد الله المزني قال : حدّثنا فرج بن فضالة عن أزهر بن عبد الله الحرازي قال : حدّثني من سمع عثمان بن عفان تلا هذه الآية : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } الآية ، فقال : سابقنا : أهل جهادنا ، ومقتصرنا : أهل حضرنا ، وظالمنا : أهل بدونا .

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا عمر بن الخطاب قال : حدّثنا محمد بن إسحاق قال : حدّثنا إسماعيل بن يزيد قال : حدّثنا داوُد عن الصلت بن دينار قال : حدّثنا عقبة بن صهبان قال : دخلت على عائشة فسألتها عن قول الله عز وجل : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } فقالت لي : يا بني كلّهم في الجنة ؛ أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به ، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا .

وقال مجاهد والحسن وقتادة : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } قالوا : هم أصحاب المشأمة ، { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } هم أصحاب الميمنة { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ } هم السابقون المقربون من الناس كلهم .

قال قتادة : فهذا في الدنيا على ثلاث منازل وعند الموت قال الله تعالى :

{ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } [ الواقعة : 90 ] إلى قوله :

{ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } [ الواقعة : 94 ] ، وفي الآخرة أيضاً ، قال عز وجل :

{ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } [ الواقعة : 7-8 ] إلى قوله :

{ الْمُقَرَّبُونَ } [ الواقعة : 11 ] .

وقال ابن عباس : السابق : المؤمن المخلص ، والمقتصد : المرائي ، والظالم : الكافر بنعمة الله غير الجاحد لها ؛ لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال :

{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } ، وسمعت أبا محمد شيبة بن محمد بن أحمد الشعبي يقول : سمعت أبا بكر بن عبد يقول : قالت عائشة : السابق : الذي أسلم قبل الهجرة ، والمقتصد : الذي أسلم بعد الهجرة ، والظالم : نحن .

وقال بكر بن سهل الدمياطي : الظالم لنفسه : الذي مات على كبيرة ولم يتب منها ، والمقتصد : الذي لم يصب كبيرة ، والسابق بالخيرات : الذي لم يعصِ الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له .

وعن الحسن أيضاً قال : السابق : من رجحت حسناته ، والمقتصد : من استوى حسناته وسيئاته ، والظالم : الذي ترجح سيئاته على حسناته .

سهل بن عبد الله : السابق : العالم ، والمقتصد : المتعلم ، والظالم : الجاهل ، وعنه أيضاً : السابق : الذي اشتغل بمعاده ، والمقتصد : الذي اشتغل بمعاده عن معاشه ، والظالم : الذي اشتغل بمعاشه عن معاده .

وقيل : الظالم : طالب الدنيا ، والمقتصد : طالب العقبى ، والسابق ، طالب المولى .

وقيل : الظالم : المسلم ، والمقتصد : المؤمن ، والسابق : المحسن .

وقيل : الظالم : المرائي في جميع أعماله ، والمقتصد : من تكون أعماله بعضها رياءً وبعضها إخلاصاً ، والسابق : المخلص في أفعاله كلها ، وقيل : الظالم : من أخذ الدنيا حلالاً كان أو حراماً ، والمقتصد : من يجتهد في طلب الحلال ، والسابق : الذي ترك الدنيا جملةً وأعرض عنها .

أبو عثمان الحبري : الظالم : من وجد الله بلسانه ولم يوافق فعله قوله ، والمقتصد : من وجده بلسانه وأطاعه بجوارحه ، والسابق : من وجده بلسانه وأطاعه بجوارحه وأخلص في عمله ، وقيل : السابقون : هم المهاجرون الأولون ، والمقتصدون : عامة الصحابة ، والظالمون : التابعون .

وسمعت محمد بن الحسين السلمي يقول : سمعت منصور بن عبد الله يقول : سمعت أبا القاسم البزاز بمصر يقول : قال ابن عطا : الظالم : الذي تحبه من أجل الدُّنيا ، والمقتصد : الذي تحبه من أجل العقبى ، والسابق : الذي أسقط مراده بمراد الحق ، فلا يرى لنفسه طلباً ولا مراداً لغلبة سلطان الحق عليه ، وقيل : الظالم : من كان ظاهره خيراً من باطنه ، والمقتصد : الذي استوى ظاهره وباطنه ، والسابق : الذي باطنه خيرٌ من ظاهره .

وقيل : الظالم : الذي يعبد الله خوفاً من النار ، والمقتصد : الذي يعبده طمعاً في الجنة ، والسابق : الذي يعبده لا لسبب ، وقيل : الظالم : الزاهد ، والمقتصد : العارف ، والسابق : المحب ، وقيل : الظالم : الذي يجزع عند البلاء ، والمقتصد : الذي يصبر عند البلاء ، والسابق : الذي يتلذذ بالبلاء ، وقيل : الظالم : الذي يعبده على الغفلة والعادة ، والمقتصد : الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق : الذي يعبده على الهيبة ورؤية المنة ، وقيل : الظالم : الذي أُعطي فمنع ، والمقتصد : الذي أُعطي فبذل ، والسابق : الذي مُنع فشكر ، وقيل : الظالم : غافل ، والمقتصد : طالب ، والسابق واجد ، وقيل : الظالم : من استغنى بماله ، والمقتصد : من استغنى بدينه ، والسابق : من استغنى بربه ، وقيل : الظالم التالي للقرآن ، والمقتصد : القارئ له والعالم به ، والسابق : القارئ لكتاب الله العالم بكتاب الله العامل به ، وقيل : السابق : الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن ، والمقتصد : الذي يدخل المسجد وقد أذن ، والظالم : الذي يدخل المسجد وقد أُقيم ، وقيل : الظالم : الذي يحب نفسه ، والمقتصد : الذي يحب ربه ، والسابق : الذي يحبه ربه ، وقيل : الظالم : مريد ، والمقتصد : مُراد ، والسابق : مطلوب ، وقيل : الظالم : مدعو ، والمقتصد مأذون له ، والسابق : مقرب ، وقيل : الظالم : عيوف ، والمقتصد : ألوف ، والسابق : حليف .

وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الظالم : ينتصف ولا ينصف ، والمقتصد : ينصف وينتصف ، والسابق ينصف ولا ينتصف .

ذو النون المصري : الظالم : الذي لا يذكر الله بلسانه ، والمقتصد : الذي يذكره بقلبه ، والسابق : الذي لا ينسى ربه .

أحمد بن عاصم الأنطاكي : الظالم : صاحب الأقوال ، والمقتصد : صاحب الأفعال ، والسابق : صاحب الأحوال .