فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } إنما قدم المفعول الثاني لقصد التشريف والتعظيم للكتاب والمعنى ثم أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب ، وهو القرآن ، أي قضينا وقدرنا أن نورث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي نزلناه عليك ، فأورثنا استعارة تبعية سمى إعطاء الكتاب إياهم من غير كد وتعب في وصوله إليهم بتوريث الوارث .

و { من } للبيان أو للتبعيض ، والمراد بعبادنا أمة الإجابة سواء حفظوه أولا فهو عطية لجميعهم حتى من لم يحفظه لأنه قدوته ، وفيه هدايته وبركته ، ومعنى اصطفائهم : اختيارهم واستخلاصهم . ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة قد شرفهم الله على سائر العباد ، وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس ، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء وسيد ولد آدم عليه وعليهم الصلاة والسلام ، وخصهم بحمل أفضل الكتب ، قال مقاتل : يعني قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذين اصطفيناهم من عبادنا ، وقيل : إن المعنى أورثناه من الأمم السالفة أي أخرناه عنهم ، وأعطيناه الذين اصطفينا ، والأول أولى .

ثم قسم سبحانه هؤلاء الذين أورثهم كتابه واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام فقال :

{ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } وفي قوله : { بِإِذْنِ اللهِ } تنبيه على عزة منال هذه الرتبة ، وصعوبة مأخذها أي بأمره أو بعلمه ، أو بتوفيقه { ذَلِكَ } أي توريث الكتاب والاصطفاء وقيل السبق إلى الخيرات ، والأول أولى ، وهو مبتدأ وخبره .

{ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } أي الفضل الذي لا يقادر قدره ، وقد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم ، وهو من اصطفاهم من العباد فكيف يكون من اصطفاه الله ظالما لنفسه ، فقيل : إن التقسيم هو راجع إلى العباد أي فمن عبادنا ظالم لنفسه ، وهو الكافر ويكون ضمير يدخلونها عائدا إلى المقتصد والسابق ، وقيل : المراد بالظالم لنفسه هو المقصر في العمل به ، وهو المرجى لأمر الله ، وليس من ضرورة وراثة الكتاب مراعاته حق رعايته لقوله : فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب وهذا فيه نظر ، لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء .

وقيل الظالم لنفسه هو الذي عمل الصغائر ، وقد روي هذا القول عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة ، وهذا هو الراجح لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء ، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة ووجه كونه ظالما لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظ عظيم وقيل الظالم هو صاحب الكبائر ، قلت : ومنشأ الإشكال هو من جعل الوارثين هم العلماء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ لو جعلت الوراثة لجميع الأمة زال الإشكال للقطع بأن منهم ظالما لنفسه ، ولا ينافي الاصطفاء لكونهم فضلوا الأمم الآخرة ، وقد ورد في ذلك شيء كثير كما لا يخفى ويؤيده ما سيأتي آخر البحث والله أعلم .

وقد اختلف السلف في تفسير السابق والمقتصد فقال عكرمة وقتادة والضحاك : إن المقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقي على الإطلاق وبه قال الفراء . وقال مجاهد في تفسير الآية : فمنهم ظالم لنفسه أصحاب المشأمة ومنهم مقتصد أصحاب الميمنة ومنهم سابق بالخيرات السابقون من الناس كلهم ، وقال المبرد : إن المقتصد هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها .

وقال الحسن الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته ، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئآته والسابق من رجحت حسناته على سيئآته ، وقال مقاتل : الظالم لنفسه أصحاب الكبائر من أهل التوحيد ، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة والسابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة . وحكى النحاس : أن الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئآته فيكون قوله الآتي : { جنات عدن يدخلونها } للذين سبقوا بالخيرات لا غير . قال : وهذا قول جماعة من أهل النظر لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى .

وقال الضحاك : فمنهم ظالم لنفسه أي من ذريتهم ظالم لنفسه وقال سهل بن عبد الله : السابق العالم والمقتصد المتعلم ، والظالم لنفسه الجاهل وقال ذو النون المصري : الظالم لنفسه الذاكر لله بلسانه فقط ، والمقتصد الذاكر بقلبه والسابق الذي لا ينساه . وقال الأنطاكي : الظالم صاحب الأقوال والمقتصد صاحب الأفعال والسابق صاحب الأحوال . قال ابن عطاء : الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبي والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق .

وقيل : الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار والمقتصد الذي يعبده طمعا في الجنة والسابق الذي يعبده لا لسبب . وقيل : الظالم الذي يحب نفسه ، والمقتصد الذي يحب دينه ، والسابق : الذي يحب ربه ، وقيل : الظالم الذي ينتصف ولا ينصف ، والمقتصد : الذي ينصف وينتصف ، والسابق : الذي ينصف ولا ينتصف وقيل : الظالم هو المرجئ لأمر الله ، والمقتصد هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا .

قال النسفي : وهنا التأويل يوافق التنزيل فإنه تعالى قال : { والسابقون الأولون من المهاجرين } الآية ، وقال بعده : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } الآية وقال بعده : { وآخرون مرجون لأمر الله } انتهى .

وقال الربيع بن أنس : الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد صاحب الصغائر ، والسابق المجتنب لهما ، وسئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال كلهم مؤمنون وأما صفة الكفار فبعد هذا . وهو قوله : ( والذين كفروا لهم نار جهنم ) ، وأما الطبقات الثلاث فهم الذين اصطفى من عباده وهم أهل الإيمان وعليه الجمهور ، وقيل الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه والمقتصد الذي استوى ظاهره وباطنه ، والسابق الذي باطنه خير من ظاهره . وقيل : الظالم التالي للقرآن ولم يعمل به ، والمقتصد : التالي له العالم به والسابق القارئ له العالم به العامل بما فيه .

وقد ذكر الثعلبي وغيره أقوالا كثيرة ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم والمقتصد والسابق معروفة ، وهو يصدق الظلم للنفس بمجرد إحرامها للحظ وتفويت ما هو خير لها ، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوقها من الثواب وإن كان قائما بما أوجب الله عليه تاركا لما نهاه عنه .

فهو من هذه الحيثية ممن اصطفاه الله ومن أهل الجنة فلا إشكال في الآية ، ومن هذا قول آدم عليه السلام { ربنا ظلمنا أنفسنا } وقول يونس { إني كنت من الظالمين } ومعنى المقتصد : هو من يتوسط في أمر الدين ، ولا يميل إلى جانب الإفراط ولا إلى جانب التفريط ، وهذا من أهل الجنة ، وأما السابق : فهو الذي سبق غيره في أمور الدين وهو خير الثلاثة ، وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد وتقديمهما على السابق مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه ، والسابق أفضل منهما فقيل : إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله : ( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ) ، ونحوها من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشر على أهل الخير وتقديم المفضولين على الفاضلين .

وقيل : وجه التقديم هنا أن الظالمين كثير وأن المقتصدين بالنسبة إلى أهل المعاصي قليل والسابقين بالنسبة إلى الفريقين أقل قليل ، فقدم الأكثر على الأقل والأول أولى ، فإن الكثرة بمجردها لا تقتضي تقديم الذكر .

وقال ابن عطاء : إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله ، وقيل : إنما قدمه ليعرفه أن ذنبه لا يبعده من ربه ، وقيل : إن أول الأحوال معصية ثم توبة ثم استقامة . وقال جعفر الصادق : بدأ بالظالمين إخبار بأنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه ، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء ، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة ، وقد قيل في وجه التقديم غير ما ذكرناه مما لا حاجة إلى التطويل به .

وعن ابن عباس في الآية قال : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ورثهم الله كل كتاب أنزل ، فظالمهم مغفور له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب .

وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وغيرهما عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية : ( هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم يدخلون الجنة ) ، وفي إسناده رجلان مجهولان .

وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وغيرهم عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله : { ثم أورثنا الكتاب } الآية فأما الذين سبقوا وأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا ، أما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر ، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته ، فهم الذين يقولون : { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } . الآية . قال البيهقي : إذا كثرت روايات في حديث ظهر أن للحديث أصلا انتهى . وفي إسناد أحمد : محمد بن اسحق وفي إسناد ابن أبي حاتم رجل مجهول .

وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قال : أمتي ثلاثة أثلاث فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ، ثم يدخلون الجنة ، وثلث يمحصون ويكشفون ، ثم تأتي الملائكة فيقولون :وجدناهم يقولون : لا إله إلا الله وحده فيقول الله : أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله الله وحده ، واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب وهي التي قال الله : { وليحملن أثقالهم ، وأثقالا من أثقالهم } وتصديقها في التي ذكر في الملائكة قال الله تعالى : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) فجعلهم ثلاثة أفواج فمنهم ظالم لنفسه فهذا الذي يكشف ويمحص ومنهم مقتصد وهو الذي يحاسب حسابا يسيرا ومنهم سابق بالخيرات فهو الذي يلج الجنة بغير حساب ولا عذاب بإذن الله يدخلون الجنة جميعا ) . قال ابن كثير بعد ذكر هذا الحديث : غريب جدا انتهى .

وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا ، ويجب المصير إليها ويدفع بها قول من حمل الظالم لنفسه على الكافر .

ويؤيدها ما أخرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي في البعث ، عن أسامة بن زيد : فمنهم ظالم لنفسه الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كلهم من هذه الأمة وكلهم في الجنة ) . وما أخرجه الطيالسي وعبد ابن حميد والطبراني وغيرهم وعن عقبة بن صهبان قال : قلت لعائشة أرأيت قول الله : ثم أورثنا الكتاب الآية ؟ قالت : أما السابق فمن مضى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد له بالجنة ، أما المقتصد فمن تبع أثارهم ، فعمل بمثل عملهم حتى لحق بهم ، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك ، ومن اتبعنا ، وكل في الجنة . وعن ابن مسعود قال : هذه ثلاثة أثلاث يوم القيامة . ثلث يدخلون الجنة جميعا بغير حساب ، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ، وثلث يجيئون بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا فيقول الرب : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي . ثم قرأ : { ثم أورثنا الكتاب } الآية .

وأخرج سعيد ابن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا مر بهذه الآية { ثم أورثنا الكتاب } قال : ألا . إن سابقنا سابق . ومقتصدنا ، ناج وظالمنا مغفور له ، وأخرجه البيهقي وغيره عنه من وجه آخر مرفوعا ، وأخرجه ابن النجار من حديث أنس مرفوعا .

وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله . والظالم لنفسه أصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم .

وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن عثمان بن عفان أنه نزع بهذه الآية ثم قال : ألا إن سابقنا أهل جهادنا . ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا . ألا وإن ظالمنا أهل بدونا .

وأخرجه البيهقي في البعث عن البراء بن عازب قال : أشهد على الله أنه يدخلهم الجنة جميعا ، وأخرج الفريابي وابن جرير وابن مردويه عنه قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قال : [ كلهم ناج وهي هذه الأمة ] .

وأخرج الفريابي وعبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال هي مثل التي في الواقعة أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة والسابقون ، صنفان ناجيان ، وصنف هالك ، وعنه قال : هو الكافر ، والمقتصد أصحاب اليمين ، وهذا المروى عنه رضي الله عنه لا يطابق ما هو الظاهر من النظم القرآني ، ولا يوافق ما قدمنا من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

وعن جماعة من الصحابة ، وعن عبد الله بن الحارث أن ابن عباس سأل كعبا عن هذه الآية فقال : نجوا كلهم ، ثم قال تحاكت مناكبهم ورب الكعبة ، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم . أخرجه ابن أبي شيبة وغيره وقد قدمنا عن ابن عباس ما يفيد أن الظالم لنفسه من الناجين فتعارضت الأقوال عنه .