الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

ثم قال تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } أي : الذين{[56197]} اخترنا ، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم واختلف في هذه الثلاثة الأصناف المذكورين في هذه السورة وفي سورة " الواقعة " .

فقيل : الأصناف في هذه السورة هم الأصناف في سورة " الواقعة " فالسابق بالخيرات هو المقرب ، والمقتصد هم أصحاب الميمنة ، والظالم لنفسه هم أصحاب المشأمة{[56198]} . وأكثر الناس على أن الثلاثة الأصناف في هذه السورة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه قال تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } وأصحاب المشأمة المكذبين الضالينلم يورثوا كتابا ، ولا اصطفاهم الله ولا اختارهم ، وقد أخبرنا في هذه السورة أنه إنما أورث الكتاب من اختاره واصطفاه . فالظالم لنفسه ليس هو من أصحاب المشأمة ، والثلاثة أصناف في " الواقعة " يراد بها جميع الخلق من الأولين والآخرين ، والثلاثة الأصناف في هذه السورة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة لقوله : / { أورثنا الكتاب } ولقوله : { الذين اصطفينا من عبادنا } ولما نذكره من قول الصحابة والتابعين وما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .

من ذلك قول ابن عباس : قال : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } أي : الذين اخترنا من عبادنا ، قال : معناه اخترنا منهم ، فالظالم لنفسه هو الذي يموت على كبيرة لم يتب منها ، والمقتصد هو الذي مات على صغائر ولم يصب كبيرة لم يتب منها والسابق هو الذي مات تائبا من كبيرته وصغيرته ، أو لم يصب ذلك فيحتاج إلى توبة . ولا يسلم من الصغائر واحد إلا يحيى بن زكريا ، فأما الكبائر فالأنبياء معصومون منها ، وسائر الخلق غير معصومين منها إلا من شاء الله أن يعصمه . ومعنى " اصطفينا " : اخترنا منهم ، يعني أمو محمد صلى الله عليه وسلم ، أورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله ، فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب .

وروى أبو الدرداء : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجيء هذا السابق بالخيرات فيدخل الجنة بلا حساب ، ويجيء المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، ثم يتجاوز الله عنه ، ويجيء هذا الظالم فيوقف ويعير ويجزى ويغرف ذنوبه ثم يدخله الله الجنة بفضل رحمته فهم الذين قالوا( الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور }{[56199]} أي غفر الذنب الكبير وشكر العمل القليل .

وروى أيضا أبو الدرداء : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا ، وأما الظالم فيحبس في طول المحبس ثم يتجاوز الله عنه " {[56200]} .

وقال عمر رضي الله عنه : سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له{[56201]} .

وقال ابن مسعود : هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة ، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ، وثلث يجيئون بذنوب عظام فيقول تعالى ذكره : ما بهؤلاء ؟ وهو أعلم فتقول الملائكة : هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك ، فيقول الرب جل ثناؤه : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي . ثم تلا عبد الله هذه الآية{[56202]} .

وقال كعب لما قرأ هذه الآية أو قرئت عليه : دخلوها ورب الكعبة . وقال : الظالم لنفسه من هذه الأمة والمقتصد السابق بالخيرات كلهم في الجنة ، ألم تر أن الله يقول : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } الآية ثم قرأ : { جنات عدن يدخلونها } إلى قوله : { كل{[56203]} كفور }{[56204]} .

وقال محمد بن الحنفية{[56205]} : إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم مرحومة : الظالم مغفور له ، والمقتصد في الجنات عند الله جل ذكره وثناؤه ، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله جل ذكره{[56206]} .

وروي عن عمر وعثمان وأبي الدرداء وعقبة بن عمرو{[56207]} وعائشة رضي الله عنها أنهم قالوا : الثلاثة في الجنة ما لم يكن الظالم كافرا أو فاسقا ، أو منافقا{[56208]} .

وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الكتاب الذي أورث هؤلاء : شهادة أن لا إله إلا الله وهو قول مجاهد{[56209]} .

وروي أن كعب الأحبار لما أسلم قالت يهود : ما حملك على رأيك الذي رأيت ؟ ألم تكن سيدنا وابن سيدنا في أنفسنا ؟ قال لهم : أتلوموني إن كنت من أمة وجدت مجتهدهم يدخل الجنة بغير حساب ووجدت مقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، ووجدت ظالمهم يغفر له ذنبه .

وعن عائشة أنها قرأت هذه الآية : { ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا } فلما بلغت : { جنات عدن يدخلونها } قالت : دخلت ورب الكعبة هذه الأصناف الثلاثة الجنة ، فلما دخلوها واستقروا بها قالوا : { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } أي : حزن ما عاينوه من أهوال الموقف . وقيل : ذلك حين أيقنوا بذهاب الموت وأمنوه ، فذهاب الموت وفقده حسرة على أهل النار وفرحة لأهل الجنة .

وقيل : الحزن أنهم عملوا أعمالا في الدنيا كانوا في حزن ألا تقبل منهم ، فلما قبلت زال الحزن{[56210]} .

وقال ابن عباس : المصطفون أمة محمد صلى الله عليه وسلم{[56211]} .

قال : فالظالم لنفسه : المنافق وهو في النار ، والمقتصد والسابق في الجنة .

وروي عن ابن عباس : أيضا أنه قال : جعل الله أهل الآية على ثلاث منازل ، كقوله : { وأصحاب الشمال ، ما أصحاب الشمال{[56212]} } { وأصحاب اليمين ، ما أصحاب اليمين{[56213]} } .

{ والسابقون السابقون ، أولئك المقربون{[56214]} }{[56215]} قال عكرمة : اثنان في الجنة وواحد في النار{[56216]} .

وقال مجاهد والحسن وقتادة : " فمنهم ظالم لنفسه " هذا المنافق ومنهم مقتصد " : هذا صاحب اليمين ، " ومنهم سابق بالخيرات " : هذا المقرب{[56217]} . وروى ابن وهب أن عثمان بن عفان قال : سابقنا أهل الجهاد منا ، ومقتصدنا أهل حضرنا ، وظالمنا أهل بدون{[56218]} .

وقال قتادة : الناس ثلاث منازل في الدنيا ، وثلاث منازل عند الموت ، وثلاث منازل في الآخرة . أما الدنيا فمؤمن ومنافق ومشرك ، وأما عند الموت فمقرب وصاحب يمين وضال . وقرأ { فأما إن كان من المقربين } إلى : { وتصلية جحيم }{[56219]} وأما في الآخرة فصاحب يمين وصاحب شمال وسابق . ثم قرأ : { فأصحاب الميمنة ، ما أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ، ما أصحاب المشأمة ، والسابقون السابقون ، أولئك المقربون{[56220]} }{[56221]} .

فالضمير المرفوع في { يدخلونها } على هذه الأقوال يعود على المقتصد والسابق وعلى الأقوال الأولى يعود على الأصناف الثلاثة .

وقد قيل : إن المصطفين هنا : الأنبياء ، والظالم لنفسه : المكتسب منهم الصغائر وهذا قول شاذ ، والأول أشهر .

قال المبرد : المقتصد : الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها{[56222]} .

وقيل : الظالم هنا صاحب الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيآته ، فيكون ضمير يدخلونها يعود على السابقين بالخيرات لا غير{[56223]} .

وروي عن ابن عباس : أن الكتاب هنا كل كتاب أنزل{[56224]} .

ثم قال : { ذلك هو الفضل الكبير } أي : هو الذي وفق هذا له من عمل الخيرات فضل كبير من الله عليه .

ويجوز أن يكون المعنى هذا الذي أورث الله هؤلاء من الكتاب فضل كبير من الله عليهم .


[56197]:في الأصل: "الذي"
[56198]:هو قول ابن عباس انظره: في تفسير سفيان الثوري 246
[56199]:أخرجه أحمد في مسنده 5/198 بمعناه. وأورده القرطبي في الجامع 14/350 ـ 351 مع اختلاف يسير في اللفظ
[56200]:أخرجه أحمد في مسنده 5/134 والحاكم في مستدركه 2/426 مع اختلاف يسير في اللفظ
[56201]:انظر: معاني الزجاج 4/268 والبحر المحيط 7/314، والدر المنثور 7/25 والتفسير المأثورعن عمر 628
[56202]:انظر: جامع البيان 22/ 134 والمحرر الوجيز 13/174 وتفسير ابن كثير 3/557، والدر المنثور 7/25 وفتح القدير 4/352 وتفسير ابن مسعود 2/519
[56203]:مثبت في طرة أ
[56204]:انظر: جامع البيان 22/134، وتفسير سفيان الثوري 246
[56205]:تقدمت ترجمته
[56206]:انظر: جامع البيان 22/135 وتفسير ابن كثير 3/557، والدر المنثور 7/28
[56207]:هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري البدري، أبو مسعود من الخزرج، صحابي شهد العقبة وأحدا وما بعدها، ونزل الكوفة له عدة أحاديث في كتب الحديث. توفي سنة 40 هـ وقيل سنة 41 هـ وقيل قبل ذلك انظر: الاستيعاب 3/1048، 1827 والإصابة 2/490، 5606 وتقريب التهذيب 2/27، 249
[56208]:انظر: الجامع للقرطبي 14/346 والبحر المحيط 7/314 والدر المنثور 7/24ـ 25
[56209]:ورد في جامع البيان 22/135 بصيغة: "وقال آخرون" وبعد ذلك عزاه الطبري إلى قتادة
[56210]:هذا القول معزو إلى ابن عباس انظره في فتح القدير بمعناه 4/353
[56211]:انظر: الجامع للقرطبي 14/347
[56212]:الواقعة: الآيتان 43ـ44
[56213]:الواقعة آية 29
[56214]:الواقعة: آية 12
[56215]:انظر: جامع البيان 22/135 وتفسير سفيان الثوري 246 والدر المنثور 7/26
[56216]:انظر: جامع البيان 22/135
[56217]:المصدر السابق والقول فيه منسوب إلى الحسن وقتادة فقط.
[56218]:انظر: الدر المنثور 7/25
[56219]:الواقعة: الآيات من 91 إلى 97 وفيما يلي نصها: {فأما إن كان من المقربين، فروح وريحان وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين، فسلام لك من أصحاب اليمين، وأما إن كان من المكذبين الضالين، فنزل من حميم، وتصلية جحيم}
[56220]:الواقعة: الآيات من 8 إلى 11
[56221]:انظر: جامع البيان 22/136 والدر المنثور 7/27
[56222]:انظر: إعراب النحاس 3/372 والجامع للقرطبي 14/344، وفتح القدير 4/349
[56223]:القول للنحاس كما في الجامع للقرطبي 14/347
[56224]:انظر: جامع البيان 22/134