النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِن عِبَادِنَا } فيه وجهان :

أحدهما : أن الكتاب هو القرآن ، ومعنى الإرث انتقال الحكم إليهم .

الثاني : أن إرث الكتاب هو الإيمان بالكتب السالفة لأن حقيقة الإرث انتقال الشيء من قوم إلى قوم .

وفي { الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبادِنَا } ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنهم الأنبياء ، حكاه ابن عيسى .

الثاني : أنهم بنو إسرائيل لقوله عز وجل :{ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً }[ آل عمران : 33 ] الآية . قاله ابن بحر .

الثالث : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الكلبي .

{ فَمِنْهُمْ ظَالِِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } فيه وجهان :

أحدهما : أن قوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِِمٌ لِّنَفْسِهِ } كلام مبتدأ لا يرجع إلى المصطفين ، وهذا قول من تأوّل المصطفين الأنبياء ، فيكون من عداهم ثلاثة أصناف على ما بينهم .

الثاني : أنه راجع إلى تفصيل أحوال الذين اصطفينا ، ومعنى الاصطفاء الاختيار وهذا قول من تأول المصطفين غير الأنبياء ، فجعلهم ثلاثة أصناف .

فأما الظالم لنفسه ها هنا ففيه خمسة أوجه :

أحدها : أنهم أهل الصغائر من هذه الأمة ، روى شهر بن حوشب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له .

الثاني : أنهم أهل الكبائر وأصحاب المشأمة ، قاله السدي .

الثالث : أنهم المنافقون وهم مستثنون .

الرابع : أنهم أهل الكتاب ، قاله الحسن .

الخامس : أنه الجاحد ، قاله مجاهد .

وأما المقتصد ففيه أربعة أقاويل :

أحدها : أنه المتوسط في الطاعات وهذا معنى حديث أبي الدرداء ، روى إبراهيم عن أبي صالح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية فقال : " أَمَّا السَّابِقُ فَيدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ ، وَأَمَّا المُقْتَصِدُ فَيُحَاسَب حِسَاباً يَسِيراً ، وَأمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فيُحْصَرُ فِي طُولِ الحبْسِ{[2284]} ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنهُ{[2285]} "

الثاني : أنهم أصحاب اليمين ، قاله السدي .

الثالث : أنهم أصحاب الصغائر وهو قول متأخر .

الرابع : أنهم الذين اتبعوا سنن النبي صلى الله عليه وسلم من بعده ، قاله الحسن .

{ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } فيه أربعة أقاويل :

أحدها : أنهم المقربون ، قاله مجاهد .

الثاني : أنهم المستكثرون من طاعة الله تعالى ، وهو مأثور .

الثالث : أنهم أهل المنزلة العليا في الطاعات ، قاله علي بن عيسى .

الرابع : أنه من مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد له بالجنة .

روى عقبة بن صهبان قال : سألت عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت : كلهم من أهل الجنة ، السابق من مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد له بالحياة والرزق ، والمقتصد من اتبع أثره حتى لحق به ، والظالم لنفسه مثلي ومثلك ومن اتبعنا .


[2284]:في ك وأما الظالم لنفسه فيحبس في طول الحساب، وفي تفسير القرطبي فيحبس في المقام ويوبخ ويقرع ثم يدخل الجنة والمعنى واحد.
[2285]:رواه أحمد في المسند 5/ 198 و 6/ 444.