بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

قوله عز وجل : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } ويقال : أعطينا القرآن { الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } يعني : اخترنا من هذه الأمة . و { ثُمَّ } بمعنى العطف . يعني : وأورثنا الكتاب . ويقال { ثُمَّ } بمعنى التأخير . يعني : بعد كتب الأولين { ثم أَوْرَثْنَا الكتاب } { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } يعني : من الناس ظالم لنفسه { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } .

روي عن ابن عباس في إحدى الروايتين أنه قال : " الظالم الكافر ، والمقتصد المنافق ، والسابق المؤمن " . وروي عنه رواية أخرى أنه قال : " هؤلاء كلهم من المؤمنين ، فالسابق الذي أسلم قبل الهجرة . والمقتصد الذي أسلم بعد الهجرة ، قبل فتح مكة . والظالم الذي أسلم بعد فتح مكة " . وطريق ثالث ما روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «السَّابِقُ الَّذِي يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَالمُقْتَصِدُ الَّذِي يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ، وَالظَّالِمُ الذي يُحَاسَبُ فِي طُولِ المَحْشَرِ » .

وطريق رابع ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " سابقنا سابق " ، ومقتصدنا ناجي ، وظالمنا مغفور له " . وطريق آخر ما روى أسد بن رفاعة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : " سابقنا أهل الجهاد ، ومقتصدنا أهل حضرنا ، يعني : أهل الأمصار وهم أهل الجماعات والجمعات ، وظالمنا أهل بدونا " . وطريق سادس ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت عن هذه الآية فقالت : " السابق النبي صلى الله عليه وسلم ومن مضى معه ، والمقتصد مثل أبي بكر ومن مضى معه ، والظالم فمثلي ومثلكم " . وطريق سابع ما روي عن مجاهد قال : " الظالم هم أصحاب المشأمة ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والسابق هم السابقون بالخيرات " ، فكأنه استخرجه من قوله : { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة } [ الواقعة : 8 ] { والسابقون السابقون } [ الواقعة : 10 ] وطريق ثامن ما روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال : " الظالم هم المنافقون ، والمقتصد هم التابعون بإحسان ، والسابق هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " . وطريق تاسع ما روي عن الحسن أيضاً أنه قال : " السابق الذي ترك الدنيا ، والمقتصد الذي أخذ من الحلال ، والظالم الذي لا يبالي من أين أخذ " .

وقيل : طريق عاشر : " السابق الذي رجحت حسناته على سيئاته ، والمقتصد الذي استوت حسناته مع سيئاته ، والظالم الذي رجحت سيئاته على حسناته " . وقيل : طريق حادي عشر : " السابق الذي سره خَيْرٌ من علانيته ، والمقتصد الذي سِرُّهُ وعلانيته سواء ، والظالم الذي علانيته خير من سره " .

وطريق ثاني عشر : " السابق الذي تهيأ للصلاة قبل دخول وقتها ، والمقتصد الذي تهيأ للصلاة بعد دخول وقتها ، والظالم الذي ينتظر الإقامة " . وطريق ثالث عشر : " السابق الذي يتوكل على الله يجعل جميع جهده في طاعة الله عز وجل ، والمقتصد الذي يطلب قوته ولا يطلب الزيادة ، والظالم الذي يطلب فوق القوت والكفاف " .

وقيل : طريق رابع عشر : " السابق الذي شغله معاده عن معاشه ، والمقتصد الذي يشتغل بهما جميعاً ، والظالم الذي شغله معاشه عن معاده " .

وقيل : طريق خامس عشر : " السابق الذي ينجو نفسه وينجو غيره بشفاعته ، والمقتصد الذي يدخل الجنة برحمة الله وفضله ، والظالم الذي يدخل الجنة بشفاعة الشافعين " .

وطريق سادس عشر : " السابق الذي يعطى كتابه بيمينه ، والمقتصد الذي يعطى كتابه بشماله ، والظالم الذي يعطى كتابه وراء ظهره " .

وطريق سابع عشر قيل : السابق الذي ركن إلى المولى ، والمقتصد الذي ركن إلى العقبى ، والظالم الذي ركن إلى الدنيا . وطريق ثامن عشر : ما روي عن يحيى بن معاذ الرازي قال : الظالم الذي يضيع العمر في الشهوة ، والمعصية ، والمقتصد الذي يحارب فيهما ، والسابق الذي يجتهد في الزلات . ثم قال : لأن محاربة الصديقين في الزلات ، ومحاربة الزاهدين في الشهوات ، ومحاربة التائبين في الموبقات .

وطريق تاسع عشر قال : الظالم يطلب الدنيا تمتعاً ، والمقتصد الذي يطلب الدنيا تلذذاً ، والسابق الذي ترك الدنيا تزهداً . وطريق العشرين قال : الظالم الذي يطلب ما لم يؤمر بطلبه ، وهو الرزق ، والمقتصد الذي يطلب ما أمر به ولم يؤمر بطلبه ، والسابق الذي طلبه مرضاة الله ومحبته .

وطريق حادي عشرين قيل : الظالم أصحاب الكبائر ، والمقتصد أصحاب الصغائر ، والسابق المجتنب عن الصغائر والكبائر . وطريق ثاني عشرين قيل : السابق الخارج إلى الغزو والرباطات قبل الناس ، الذي يعلم ويعلم الناس ويعمل به ، والمقتصد الخارج إليها مع الناس الذي يعلم ويعلم ولا يعمل به ، والظالم الذي لا يعلم ولا يرغب إلى التعليم . وطريق رابع وعشرين ، السابق الذي هو مشغول في عيب نفسه ولا يطلب عيب غيره ، والمقتصد الذي يطلب عيب غيره ، والظالم الذي هو مشغول في عيب غيره ولا يصلح عيب نفسه . وطريق خامس وعشرين ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا } إلى قوله : { الفضل الكبير } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَؤُلاءِ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ . أمَّا السَّابِقُ بِالخَيْرَاتِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَأَمَّا المُقْتَصِدُ فَإِنَّهُ يُحَاسَبُ حِسَابَاً يَسِيْرَاً ثُمَّ يَدْخُلُ الجَنَّةَ ، وَأَمَّا الظَالِمُ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُحَاسَبُ حِسَابَاً شَدِيداً وَيُحْبَسُ حَبْسَاً طَوِيلاً ثُمَّ يَدْخُلُ الجَنَّةَ . فَإِذَا دَخَلُوا الجَنَّةَ قَالُوا : { الحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحُزْنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } » .

وقد قيل غير هذا : إلا أنه يطول الكلام فيه . وفيما ذكرنا كفاية لمن عمل به . وأكثر الروايات أن الأصناف الثلاثة كلهم في الجنة مؤمنون ، وأول الآية وآخرها دليل على ذلك . فأما أول الآية فقوله عز وجل : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } يعني : أعطينا الكتاب . فأخبر أنه أعطى الكتاب لهؤلاء الثلاثة .

وقال في آخر الآية { جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُمْ فِيهَا مَا يشاءون كَذَلِكَ يَجْزِى الله المتقين } [ النحل : 31 ] فأشار إلى الأصناف الثلاثة . وقال بعضهم : تأول قول ابن عباس الذي قاله في رواية أبي صالح : " إن الظالم كافر " يعني : كفر النعمة . ومعناه : فمنهم من كفر بهذه النعمة ، ولم يشكر الله عز وجل عليها . ومنهم مقتصد يعني : يشكر ويكفر . ومنهم سابق يعني : يشكر ولا يكفر .

وروي عن كعب الأحبار أنه قيل له : ما منعك أن تسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : كان أبي مكنني جميع التوراة إلا ورقات منعني أن أنظر فيها . فخرج أبي يوماً لحاجة . فنظرت فيها فوجدت فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ، وأنه يجعلهم يوم القيامة ثلاثة أثلاث ثلث يدخلون الجنة بغير حساب . وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ، ويدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث تشفع لهم الملائكة والنبيون فأسلمت . وقلت : لعلّي أكون من الصنف الأول ، وإن لم أكن من الصنف الأول لعلّي أن أكون من الصنف الثاني أو من الصنف الثالث . فلما قرأت القرآن وجدتها في القرآن وهو قوله عز وجل : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } إلى قوله : { جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } الآية . فإن قيل : ايش الحكمة في ذكره الظالم ابتداءً وتأخيره ذكر السابق قيل له : الحكمة فيه والله أعلم لكيلا يعجب السابق بنفسه ، ولا ييأس الظالم من رحمة الله عز وجل . ثم قال تعالى : { بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } يعني : الذي أورثهم من الكتاب واختارهم هو الفضل الكبير من الله تعالى .