قوله عز وجل : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } ويقال : أعطينا القرآن { الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } يعني : اخترنا من هذه الأمة . و { ثُمَّ } بمعنى العطف . يعني : وأورثنا الكتاب . ويقال { ثُمَّ } بمعنى التأخير . يعني : بعد كتب الأولين { ثم أَوْرَثْنَا الكتاب } { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } يعني : من الناس ظالم لنفسه { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } .
روي عن ابن عباس في إحدى الروايتين أنه قال : " الظالم الكافر ، والمقتصد المنافق ، والسابق المؤمن " . وروي عنه رواية أخرى أنه قال : " هؤلاء كلهم من المؤمنين ، فالسابق الذي أسلم قبل الهجرة . والمقتصد الذي أسلم بعد الهجرة ، قبل فتح مكة . والظالم الذي أسلم بعد فتح مكة " . وطريق ثالث ما روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «السَّابِقُ الَّذِي يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَالمُقْتَصِدُ الَّذِي يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ، وَالظَّالِمُ الذي يُحَاسَبُ فِي طُولِ المَحْشَرِ » .
وطريق رابع ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " سابقنا سابق " ، ومقتصدنا ناجي ، وظالمنا مغفور له " . وطريق آخر ما روى أسد بن رفاعة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : " سابقنا أهل الجهاد ، ومقتصدنا أهل حضرنا ، يعني : أهل الأمصار وهم أهل الجماعات والجمعات ، وظالمنا أهل بدونا " . وطريق سادس ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت عن هذه الآية فقالت : " السابق النبي صلى الله عليه وسلم ومن مضى معه ، والمقتصد مثل أبي بكر ومن مضى معه ، والظالم فمثلي ومثلكم " . وطريق سابع ما روي عن مجاهد قال : " الظالم هم أصحاب المشأمة ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والسابق هم السابقون بالخيرات " ، فكأنه استخرجه من قوله : { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة } [ الواقعة : 8 ] { والسابقون السابقون } [ الواقعة : 10 ] وطريق ثامن ما روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال : " الظالم هم المنافقون ، والمقتصد هم التابعون بإحسان ، والسابق هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " . وطريق تاسع ما روي عن الحسن أيضاً أنه قال : " السابق الذي ترك الدنيا ، والمقتصد الذي أخذ من الحلال ، والظالم الذي لا يبالي من أين أخذ " .
وقيل : طريق عاشر : " السابق الذي رجحت حسناته على سيئاته ، والمقتصد الذي استوت حسناته مع سيئاته ، والظالم الذي رجحت سيئاته على حسناته " . وقيل : طريق حادي عشر : " السابق الذي سره خَيْرٌ من علانيته ، والمقتصد الذي سِرُّهُ وعلانيته سواء ، والظالم الذي علانيته خير من سره " .
وطريق ثاني عشر : " السابق الذي تهيأ للصلاة قبل دخول وقتها ، والمقتصد الذي تهيأ للصلاة بعد دخول وقتها ، والظالم الذي ينتظر الإقامة " . وطريق ثالث عشر : " السابق الذي يتوكل على الله يجعل جميع جهده في طاعة الله عز وجل ، والمقتصد الذي يطلب قوته ولا يطلب الزيادة ، والظالم الذي يطلب فوق القوت والكفاف " .
وقيل : طريق رابع عشر : " السابق الذي شغله معاده عن معاشه ، والمقتصد الذي يشتغل بهما جميعاً ، والظالم الذي شغله معاشه عن معاده " .
وقيل : طريق خامس عشر : " السابق الذي ينجو نفسه وينجو غيره بشفاعته ، والمقتصد الذي يدخل الجنة برحمة الله وفضله ، والظالم الذي يدخل الجنة بشفاعة الشافعين " .
وطريق سادس عشر : " السابق الذي يعطى كتابه بيمينه ، والمقتصد الذي يعطى كتابه بشماله ، والظالم الذي يعطى كتابه وراء ظهره " .
وطريق سابع عشر قيل : السابق الذي ركن إلى المولى ، والمقتصد الذي ركن إلى العقبى ، والظالم الذي ركن إلى الدنيا . وطريق ثامن عشر : ما روي عن يحيى بن معاذ الرازي قال : الظالم الذي يضيع العمر في الشهوة ، والمعصية ، والمقتصد الذي يحارب فيهما ، والسابق الذي يجتهد في الزلات . ثم قال : لأن محاربة الصديقين في الزلات ، ومحاربة الزاهدين في الشهوات ، ومحاربة التائبين في الموبقات .
وطريق تاسع عشر قال : الظالم يطلب الدنيا تمتعاً ، والمقتصد الذي يطلب الدنيا تلذذاً ، والسابق الذي ترك الدنيا تزهداً . وطريق العشرين قال : الظالم الذي يطلب ما لم يؤمر بطلبه ، وهو الرزق ، والمقتصد الذي يطلب ما أمر به ولم يؤمر بطلبه ، والسابق الذي طلبه مرضاة الله ومحبته .
وطريق حادي عشرين قيل : الظالم أصحاب الكبائر ، والمقتصد أصحاب الصغائر ، والسابق المجتنب عن الصغائر والكبائر . وطريق ثاني عشرين قيل : السابق الخارج إلى الغزو والرباطات قبل الناس ، الذي يعلم ويعلم الناس ويعمل به ، والمقتصد الخارج إليها مع الناس الذي يعلم ويعلم ولا يعمل به ، والظالم الذي لا يعلم ولا يرغب إلى التعليم . وطريق رابع وعشرين ، السابق الذي هو مشغول في عيب نفسه ولا يطلب عيب غيره ، والمقتصد الذي يطلب عيب غيره ، والظالم الذي هو مشغول في عيب غيره ولا يصلح عيب نفسه . وطريق خامس وعشرين ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا } إلى قوله : { الفضل الكبير } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَؤُلاءِ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ . أمَّا السَّابِقُ بِالخَيْرَاتِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَأَمَّا المُقْتَصِدُ فَإِنَّهُ يُحَاسَبُ حِسَابَاً يَسِيْرَاً ثُمَّ يَدْخُلُ الجَنَّةَ ، وَأَمَّا الظَالِمُ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُحَاسَبُ حِسَابَاً شَدِيداً وَيُحْبَسُ حَبْسَاً طَوِيلاً ثُمَّ يَدْخُلُ الجَنَّةَ . فَإِذَا دَخَلُوا الجَنَّةَ قَالُوا : { الحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحُزْنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } » .
وقد قيل غير هذا : إلا أنه يطول الكلام فيه . وفيما ذكرنا كفاية لمن عمل به . وأكثر الروايات أن الأصناف الثلاثة كلهم في الجنة مؤمنون ، وأول الآية وآخرها دليل على ذلك . فأما أول الآية فقوله عز وجل : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } يعني : أعطينا الكتاب . فأخبر أنه أعطى الكتاب لهؤلاء الثلاثة .
وقال في آخر الآية { جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُمْ فِيهَا مَا يشاءون كَذَلِكَ يَجْزِى الله المتقين } [ النحل : 31 ] فأشار إلى الأصناف الثلاثة . وقال بعضهم : تأول قول ابن عباس الذي قاله في رواية أبي صالح : " إن الظالم كافر " يعني : كفر النعمة . ومعناه : فمنهم من كفر بهذه النعمة ، ولم يشكر الله عز وجل عليها . ومنهم مقتصد يعني : يشكر ويكفر . ومنهم سابق يعني : يشكر ولا يكفر .
وروي عن كعب الأحبار أنه قيل له : ما منعك أن تسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : كان أبي مكنني جميع التوراة إلا ورقات منعني أن أنظر فيها . فخرج أبي يوماً لحاجة . فنظرت فيها فوجدت فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ، وأنه يجعلهم يوم القيامة ثلاثة أثلاث ثلث يدخلون الجنة بغير حساب . وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ، ويدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث تشفع لهم الملائكة والنبيون فأسلمت . وقلت : لعلّي أكون من الصنف الأول ، وإن لم أكن من الصنف الأول لعلّي أن أكون من الصنف الثاني أو من الصنف الثالث . فلما قرأت القرآن وجدتها في القرآن وهو قوله عز وجل : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } إلى قوله : { جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } الآية . فإن قيل : ايش الحكمة في ذكره الظالم ابتداءً وتأخيره ذكر السابق قيل له : الحكمة فيه والله أعلم لكيلا يعجب السابق بنفسه ، ولا ييأس الظالم من رحمة الله عز وجل . ثم قال تعالى : { بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } يعني : الذي أورثهم من الكتاب واختارهم هو الفضل الكبير من الله تعالى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.