إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } أي قضينا بتوريثةِ منك أو نورِّثه . والتَّعبيرُ عنه بالماضِي لتقرره وتحققه وقيل : أورثناهُ من الأممِ السَّالفةِ أي أخَّرناه عنهم وأعطيناهُ { الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } وهم علماءُ الأمةِ من الصَّحابةِ ومن بعدهم ممَّن يسيرُ سيرتَهم أو الأمة بأسرِهم فإنَّ الله تَعال اصطفاهم على سائرِ الأممِ وجعلهم أمةً وسطاً ليكونُوا شهداءَ على النَّاسِ واختصَّهم بكرامةِ الانتماءِ إلى أفضلِ رسلِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وليس من ضرورةِ وراثةِ الكتابِ مراعاتُه حقَّ رعايتِه لقوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب } [ سورة الأعراف ، الآية169 ] الآيةَ { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } بالتَّقصيرِ في العلمِ به وهو المرجأُ لأمرِ الله { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } يعملُ به في أغلبِ الأوقاتِ ولا يخلُو من خلط السَّيئِ { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذنِ الله } قيل هم السّابقونَ الأوَّلُون من المهاجرينَ والأنصارِ وقيل : هم المُداومون على إقامةِ مواجبهِ علماً وعملاً وتعليماً وفي قوله تعالى بإذنِ الله أي بتيسيره وتوفيقِه تنبيهٌ على عزَّةِ منالِ هذه الرُّتبةِ وصعوبةِ مأخذِها وقيل : الظَّالمُ الجاهلُ والمقتصدُ المتعلِّم والسَّابقُ العالمُ وقيل الظالمُ المجرمُ والمقتصدُ الذي خلطَ الصَّالحَ بالسَّيئِ والسَّابقُ الذي ترَّجحتْ حسناته بحيثُ صارتْ سيِّئاتُه مكفَّرةً . وهو معنى قوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : ( وَأَمَّا الذين سَبَقُواْ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَأَمَّا المقتصد فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم يتلقاهم الله تعالى برحمته{[678]} ) وقد رُوي أنَّ عمرَ رضي الله عنه قال وهو على المنبرِ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ( سابقُنا سابقٌ ومقتصدُنا ناجٍ وظالمُنا مغفورٌ له ) .

{ ذلك } إشارةٌ إلى السَّبقِ بالخيراتِ وما فيه من معنى البُعدِ مع قُربِ العهد بالمشارِ إليه للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعد منزلتِه في الشَّرفِ { هُوَ الفضل الكبير } من الله عزَّ وجلَّ لا يُنال إلا بتوفيقِه تعالى


[678]:أخرجه أحمد في المسند (5/198).