لما ذكر تعالى دلالةً مِنْ خَلْقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ، ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه مِنْ خَلْق السماوات والأرض ، فقال : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } أي : قصد إلى السماء ، والاستواء هاهنا تَضَمَّن{[1457]} معنى القصد والإقبال ؛ لأنه عدي بإلى { فَسَوَّاهُنَّ } أي : فخلق السماء سبعًا ، والسماء هاهنا اسم جنس ، فلهذا قال : { فَسَوَّاهُنَّ } . { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : وعلمه محيط بجميع ما خلق{[1458]} . كما قال : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [ الملك : 14 ] وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت : 9 - 12 ] .
ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعًا ، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك ، وقد صرح المفسرون بذلك ، كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله . فأما قوله تعالى : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [ النازعات : 27 - 32 ] فقد قيل : إن { ثُمَّ } هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر ، لا لعطف الفعل على الفعل ، كما قال الشاعر :
قل لمن ساد ثم ساد أبوه *** ثم قد ساد قبل ذلك جده{[1459]}
وقيل : إن الدَّحْىَ كان بعد خلق السماوات ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
وقد قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك - وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مُرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ] {[1460]} } قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء . فلما أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من الماء دخانًا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماء . ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين ، فخلق الأرض على حوت ، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن : { ن وَالْقَلَمِ{[1461]} } والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر مَلَك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر{[1462]} لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض ، فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فَقَرّت ، فالجبال تفخر على الأرض ، فذلك قوله تعالى : { وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ{[1463]} } [ النحل : 15 ] . وخلق الجبال فيها ، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا } [ فصلت : 9 ، 10 ] . يقول : أنبت شجرها { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } يقول : أقواتها لأهلها { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } [ فصلت : 10 ] يقول : من سأل فهكذا الأمر . { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [ فصلت : 11 ] وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين ، في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض ، { وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } [ فضلت : 12 ] قال : خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي{[1464]} فيها ، من البحار وجبال البَرَد وما لا نعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظًا{[1465]} تُحْفَظُ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش ، فذلك حين يقول : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] ويقول { كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } [ الأنبياء : 30 ] .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السماوات في الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر{[1466]} ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عَجَل ، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة .
وقال مجاهد في قوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا } قال : خلق الله الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } قال : بعضهن فوق بعض ، وسبع أرضين ، يعني بعضهن تحت بعض .
وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء ، كما قال في آية السجدة : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت : 9 - 12 ] فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء ، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة : أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض ، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } [ النازعات : 27 - 31 ] قالوا : فذكر خلق السماء قبل الأرض . وفي صحيح البخاري{[1467]} : أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه ، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء ، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا ، وقد قررنا ذلك في تفسير سورة النازعات ، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله : { وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [ النازعات : 30 - 32 ] ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض ، فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه ، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها ، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير - أيضًا - من رواية ابن جُرَيج قال : أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : " خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل " {[1468]} .
وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم ، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ ، وجعلوه من كلام كعب ، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار ، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه{[1469]} مرفوعا ، وقد حرر ذلك البيهقي{[1470]} .
{ هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً } .
هذا ، إما استدلال ثانٍ على شناعة كفرهم بالله تعالى وعلى أنه مما يقضي منه العجب فإن دلائل ربوبية الله ووحدانيته ظاهرة في خلق الإنسان وفي خلق جميع ما في الأرض فهو ارتقاء في الاستدلال بكثرة المخلوقات ، وفصْل الجملةِ السابقة يجوز أن يكون لمراعاة كمال الاتصال بين الجملتين لأن هذه كالنتيجة للدليل الأول لأن في خلق الأرض وجميع ما فيها وفي كون ذلك لمنفعة البشر إكمالاً لإيجادهم المشار إليه بقوله : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] لأن فائدة الإيجاد لا تكمل إلا بإمداد الموجود بما فيه سلامته من آلام الحاجة إلى مقومات وجوده . ويجوز أن يكون ترك العطف لدفع أن يوهم العطف أن الدليل هو مجموع الأمرين فبترك العطف يعلم أن الدليل الأول مستقل بنفسه وفي الأول بُعد وفي الثاني مخالفة الأصل لأن أصل الفصل أن لا يكون قطعاً على أنه توهم لا يضير . وإما أن يكون قوله : { هو الذي خلق } امتناناً عليهم بالنعم لتسجيل أن إشراكهم كفران بالنعمة أدمج فيه الاستدلال على أنه خالق لما في الأرض من حيوان ونبات ومعادن استدلالاً بما هو نعمة مشاهدة كما أشار إليه قوله : { لكم } فيكون الفصل بين الجملتين كما قرر آنفاً ، ولم يلتفت إلى ما في هذه الجملة من مغايرة للجملة الأولى بالامتنان لأن ما أدمج فيها من الاستدلال رجح اعتبار الفصل .
والخلق تقدم تفسيره عند قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم } [ البقرة : 21 ] . والأرض اسم للعالم الكروي المشتمل على البر والبحر الذي يعمره الإنسان والحيوان والنبات والمعادن وهي المواليد الثلاثة وهذه الأرض هي موجود كائن هو ظرف لما فيه من أصناف المخلوقات ، وحيث إن العبرة كائنة في مشاهدة الموجودات من المواليد الثلاثة ، علق الخلق هنا بما في الأرض مما يحتويه ظرفها من ظاهره وباطنه ولم يعلق بذات الأرض لغفلة جل الناس عن الاعتبار ببديع خلقها إلا أن خالق المظروف جدير بخلق الظرف إذ الظرف إنما يقصد لأجل المظروف فلو كان الظرف من غير صنع خالق المظروف للزم إما تأخر الظرف عن مظروفه وفي ذلك إتلاف المظروف ، والمشاهدةُ تنفي ذلك ، وإما تقدم الظرف وذلك عبث . فاستفادة أنه خلق الأرض مأخوذة بطريق الفحوى فمن البعيد أن يجَوِّز صاحب « الكشاف » أن يراد بالأرض الجهة السفلية كما يراد بالسماء الجهة العلوية ، وبعده من وجهين أحدهما أن الأرض لم تطلق قط على غير الكرة الأرضية إلا مجازاً كما في قول شاعر أنشده صاحب « المفتاح » في بحث التعريف باللام ولم ينسبه هو ولا شارحوه :
الناس أرض بكل أرض *** وأنت من فوقهم سماء
بخلاف السماء أطلقت على كل ما علا فأظل ، والفرق بينهما أن الأرض شيء مشاهد والسماء لا يتعقل إلا بكونه شيئاً مرتفعاً .
الثاني على تسليم القياس فإن السماء لم تطلق على الجهة العليا حتى يصح إطلاق الأرض على الجهة السفلى بل إنما تطلق السماء على شيء عال لا على نفس الجهة .
وجملة : { هو الذي خلق لكم } صيغة قصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطبين من المشركين الذين لا شك عندهم في أن الله خالق ما في الأرض ولكنهم نُزلوا منزلةَ الجاهل بذلك فسيق لهم الخبر المحصور لأنهم في كفرهم وانصرافهم عن شكره والنظر في دعوته وعبادته كحال من يجهل أن الله خالق جميع الموجودات . ونظير هذا قوله : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [ النحل : 17 ] { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } [ الحج : 73 ] فإن المشركين ما كانوا يثبتون لأصنامهم قدرة على الخلق وإنما جعلوها شفعاء ووسائط وعبدوها وأعرضوا عن عبادة الله حق عبادته ونسوا الخلق الملتصق بهم وبما حولهم من الأحياء والمقصود من الكلام فيما أراه موافقاً للبلاغة التذكير بأن الله هو خالق الأرض وما عليها وما في داخلها وأن ذلك كله خلقه بقدر انتفاعنا بها وبما فيها في مختلف الأزمان والأحوال فأُوجز الكلامُ إيجازاً بديعاً بإقحام قوله : { لكم } فأَغْنَى عن جملة كاملة ، فالكلام مسوق مساق إظهار عظيم القدرة وإظهار عظيم المنة على البشر وإظهار عظيم منزلة الإنسان عند الله تعالى ، وكل أولئك يقتضي اقتلاع الكفر من نفوسهم .
الأولى : أن لام التعليل دلت على أن خلق ما في الأرض كان لأجل الناس وفي هذا تعليل للخلق وبيان لثمرته وفائدتهِ فتثار عنه مسألةُ تعليل أفعال الله تعالى وتعلقها بالأغراض ، والمسألة مختلف فيها بين المتكلمين اختلافاً يشبه أن يكون لفظياً فإن جميع المسلمين اتفقوا على أن أفعال الله تعالى ناشئة عن إرادة واختيار وعلى وفق علمه وأن جميعها مشتمل على حِكَم ومصالح وأن تلك الحكم هي ثمرات لأفعاله تعالى ناشئة عن حصول الفعل فهي لأجل حصولها عند الفعل تثمر غايات ، هذا كله لا خلاف فيه وإنما الخلاف في أنها أتوصف بكونها أغراضاً وعللاً غائية أم لا{[102]} ؟ فأثبت ذلك جماعة استدلالاً بما ورد من نحو قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] ، ومنع من ذلك أصحاب الأشعري فيما عزاه إليهم الفخر في « التفسير » مستدلين بأن الذي يفعل لغرض يلزم أن يكون مستفيداً من غرضه ذلك ضرورة أن وجود ذلك الغرض أَوْلَى بالقياس إليه من عدمه ، فيكون مستفيداً من تلك الأولوية ويلزم من كون ذلك الغرض سبباً في فعله أن يكون هو ناقصاً في فاعليته محتاجاً إلى حصول السبب .
وقد أجيب بأن لزوم الاستفادة والاستكمال إذا كانت المنفعة راجعة إلى الفاعل ، وأما إذا كانت راجعة للغير كالإحسان فَلا ، فردَّه الفخر بأنه إذا كان الإحسان أرجح من غيره وأولى لزمت الاستفادة .
وهذا الرد باطل لأن الأرجحية لا تستلزم الاستفادة أبداً بل إنما تستلزم تعلق الإرادة ، وإنما تلزم الاستفادةُ لو ادعينا التعين والوجوب .
والحاصل أن الدليل الذي استدلوا به يشتمل على مقدمتين سفسطائيتين أولاهما قولهم إنه لو كان الفعل لغرض للزم أن يكون الفاعل مستكملاً به وهذا سفسطة شُبِّه فيها الغرض النافع للفاعل بالغرض بمعنى الداعي إلى الفعل والراجع إلى ما يناسبه من الكمال لا توقف كماله عليه . الثانية قولهم إذا كان الفعل لغرض كان الغرض سبباً يقتضي عجز الفاعل وهذا شُبه فيه السبب الذي هو بمعنى الباعث بالسبب الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم وكلاهما يطلق عليه سبب .
ومن العجائب أنهم يسلمون أن أفعال الله تعالى لا تخلو عن الثمرة والحكمة ويمنعون أن تكون تلك الحكم عللاً وأغراضاً مع أن ثمرة فعل الفاعل العالم بكل شيء لا تخلو من أن تكون غرضاً لأنها تكون داعياً للفعل ضرورة تحقق علم الفاعل وإرادته . ولم أدر أي حرج نظروا إليه حين منعوا تعليل أفعال الله تعالى وأغراضها .
ويترجح عندي أن هاته المسألة اقتضاها طرد الأصول في المناظرة ، فإن الأشاعرة لما أنكروا وجوب فعل الصلاح والأصلح أَورد عليهم المعتزلة أو قدَّرُوا هُم في أنفسهم أن يُورَد عليهم أن الله تعالى لا يفعل شيئاً إلا لغرض وحكمة ولا تكون الأغراض إلا المصالح فالتزموا أن أفعال الله تعالى لا تناط بالأغراض ولا يعبر عنها بالعلل وينبىء عن هذا أنهم لما ذكروا هذه المسألة ذكروا في أدلتهم الإحسان للغير ورعي المصلحة .
وهنالك سبب آخر لفرض المسألة وهو التنزه عن وصف أفعال الله تعالى بما يوهم المنفعة له أو لغيره وكلاهما باطل لأنه لا ينتفع بأفعاله ولأن الغير قد لا يكون فعلُ الله بالنسبة إليه منفعةً .
هذا وقد نقل أبو إسحاق الشاطبي في « الموافقات » عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن أحكام الله تعالى معللة بالمصالح ودرء المفاسد ، وقد جمع الأقوال الشيخ ابن عرفة في « تفسيره » فقال : « هذا هو تعليل أفعال الله تعالى وفيه خلاف وأما أحكامه فمعللة » .
الفائدة الثانية : أخذوا من قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } أن أصل استعمال الأشياء فيما يراد له من أنواع الاستعمال هو الإباحة حتى يدل دليل على عدمها لأنه جعل ما في الأرض مخلوقاً لأجلنا وامتن بذلك علينا ، وبذلك قال الإمام الرازي والبيضاوي وصاحب « الكشاف » ونسب إلى المعتزلة وجماعة من الشافعية والحنفية منهم الكرخي ونسب إلى الشافعي . وذهب المالكية وجمهور الحنفية والمعتزلة في نقل ابن عرفة إلى أن الأصل في الأشياء الوقف ولم يروا الآية دليلاً قال ابن العربي في « أحكامه » : « إنما ذكر الله تعالى هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه على طريق العلم والقدرة وتصريف المخلوقات بمقتضى التقدير والإتقان بالعلم » الخ .
والحق أن الآية مجملة قصد منها التنبيه على قدرة الخالق بخلق ما في الأرض وأنه خلق لأجلنا إلا أن خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كل ما يقصد منه بل خلق لنا في الجملة ، على أن الامتنان يصدق إذا كان لكل من الناس بعض مما في العالم بمعنى أن الآية ذكرت أن المجموع للمجموع لا كل واحد لكل واحد كما أشار إليه البيضاوي لا سيما وقد خاطب الله بها قوماً كافرين منكراً عليهم كفرهم فكيف يعلمون إباحة أو منعاً ، وإنما محل الموعظة هو ما خلقه الله من الأشياء التي لم يزل الناس ينتفعون بها من وجوه متعددة .
وذهب جماعة إلى أن أصل الأشياء الحظر ونقل عن بعض أهل الحديث وبعض المعتزلة ، فللمعتزلة الأقوال الثلاثة كما قال القرطبي . قال الحموي في « شرح كتاب الأشباه » لابن نجيم نقلاً عن الإمام الرازي وإنما تظهر ثمرة المسألة في حكم الأشياء أيام الفترة قبل النبوة أي فيما ارتكبه الناس من تناول الشهوات ونحوها ولذلك كان الأصح أن الأمر موقوف وأنه لا وصف للأشياء يترتب من أجله عليها الثواب والعقاب .
وعندي أن هذا لا يحتاج العلماء إلى فرضه لأن أهل الفترة لا شرع لهم وليس لأفعالهم أحكام إلا في وجوب التوحيد عند قوم ، وأما بعد ورود الشرع فقد أغنى الشرع عن ذلك فإن وجد فعل لم يدل عليه دليل من نص أو قياس أو استدلال صحيح فالصحيح أن أصل المضار التحريم والمنافع الحل وهذا الذي اختاره الإمام في « المحصول » فتصير للمسألة ثمرة باعتبار هذا النوع من الحوادث في الإسلام .
{ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } .
انتقال من الاستدلال بخلق الأرض وما فيها وهو مما علمه ضروري للناس ، إلى الاستدلال بخلق ما هو أعظم من خلق الأرض وهو أيضاً قد يُغفل عن النظر في الاستدلال به على وجود الله ، وذلك خلق السماوات ، ويشبه أن يكون هذا الانتقال استطراداً لإكمال تنبيه الناس إلى عظيم القدرة .
وعَطَفَتْ { ثُمَّ } جملةَ { استوى } على جملة { خَلَقَ لكم } . ولدلالة { ثُمَّ } على الترتيب والمهلة في عطف المفرد على المفرد كانت في عطف الجملة على الجملة للمهلة في الرتبة وهي مهلة تخييلية في الأصل تشير إلى أن المعطوف بثُم أعرق في المعنى الذي تتضمنه الجملة المعطوف عليها حتى كأنَّ العَقْل يتمهل في الوصول إليه بعد الكلام الأول فينتبه السامع لذلك كي لا يغفل عنه بما سمع من الكلام السابق ، وشاع هذا الاستعمال حتى صار كالحقيقة ، ويسمى ذلك بالترتيب الرتبي وبترتب الإخبار ( بكسر الهمزة ) كقوله تعالى : { فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فَكُّ رقبةٍ } [ البلد : 11 13 ] إلى أن قال : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] فإن قوله : { فَكُّ رقبة } خبرُ مبتدأ محذوف ولما كان ذكر هاته الأمور التي يعز إيفاؤها حقها مما يُغفل السامع عن أمر آخر عظيم نُبه عليه بالعطف بثم للإشارة إلى أنه آكد وأهم ، ومنه قول طرفة بن العبد يصف راحلته :
جَنُوح دِفاق عَنْدَلٌ ثم أُفرِعَت *** لَهَا كَتِفَاها في مُعَالىً مُصَعَّد{[103]}
فإنه لما ذكر من محاسنها جملة نبه على وصف آخر أهم في صفات عنقها وهو طول قامتها قال المرزوقي في « شرح الحماسة » في شرح قول جَعفر بن عُلبة الحارثي{[104]} :
لا يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إلاَّ ابنُ حُرَّة *** يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثم يزورها
إن ثم وإن كان في عطفه المفرد على المفرد يدل على التراخي فإنه في عطفه الجملة على الجملة ليس كذلك وذكر قوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } ا هـ . وإفادة التراخي الرتبي هو المعتبر في عطف ثم للجمل سواء وافقت الترتيب الوجودي مع ذلك أو كان معطوفها متقدماً في الوجود وقد جاء في الكلام الفصيح ما يدل على معنى البعدية مراداً منه البعدية في الرتبة وإن كان عكس الترتيب الوجودي فتكون البعدية مجازية مبنية على تشبيه البَوْن المعنوي بالبعد المكاني أو الزماني ومنه قوله تعالى : { همَّاز مَشَّاءٍ بنَميم منَّاعٍ للخير مُعْتَد أثيم عُتُلّ بعدَ ذلك زنيم } [ القلم : 11- 13 ] فإن كونه عُتُلا وزنيماً أسبق في الوجود من كونه همَّازاً مشَاء بنميم لأنهما صفتان ذاتيتان بخلاف هماز مشاء بنميم ، وكذلك قوله تعالى : { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالحُ المؤمنين والملائكةُ بعد ذلك ظهير } [ التحريم : 4 ] . فإذا تمحضت ثم للتراخي الرتبي حملت عليه وإن احتملته مع التراخي الزمني فظاهر قول المرزوقي : « فإنه في عطف الجملة ليس كذلك » إنه لا يَحتمل حينئذٍ التراخي الزمني . ولكن يظهر جَواز الاحتمالين وذلك حيث يكون المعطوف بها متأخراً في الحصول على ما قبلها وهو مع ذلك أهم كما في بيت جعفر بن عُلبة . قلت وهو إما مجاز مرسل أو كناية ، فإن أطلقت ( ثم ) وأريد منها لازم التراخي وهو البعد التعظيمي كما أريد التعظيم من اسم الإشارة الموضوع للبعيد ، والعلاقة وإن كانت بعيدة إلا أنها لشهرتها في كلامهم واستعمالهم ومع القرائن لم يكن هذا الاستعمال مردوداً .
واعلم أني تتبعت هذا الاستعمال في مواضعه فرأيته أكثر ما يرد فيما إذا كانت الجمل إخباراً عن مخبر عنه واحد بخلاف ما إذا اختلف المخبر عنه فإن ( ثم ) تتعين للمهلة الزمنية كقوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } إلى قوله : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [ البقرة : 84 ، 85 ] أي بعد أن أخذنا الميثاق بأزمان صرتم تقتلون أنفسكم ونحو قولك : مرت كتيبة الأنصار ثم مرت كتيبة المهاجرين .
فأما هذه الآية فإنه إذا كانت السماوات متأخراً خلقها عن خلق الأرض فثُم للتراخي الرتبي لا محالة مع التراخي الزمني وإن كان خلق السماوات سابقاً فثُم للترتيب الرتبي لا غير .
والظاهر هو الثاني . وقد جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات والأرض فقال الجمهور منهم مجاهد والحسن ونسب إلى ابن عباس إن خلق الأرض متقدم على خلق السماء لقوله تعالى هنا : { ثم استوى إلى السماء } وقوله في سورة حم السجدة ( 9 -11 ) : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } إلى أن قال : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } . وقال قتادة والسدي ومقاتل إن خلق السماء متقدم واحتجوا بقوله تعالى : { بناها رَفع سمكها فسواها } إلى قوله : { والأرضَ بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 27- 30 ] . وقد أجيب بأن الأرض خلقت أولاً ثم خلقت السماء ثم دُحيت الأرض فالمتأخر عن خلق السماء هو دحْو الأرض ، على ما ذهب إليه علماء طبقات الأرض من أن الأرض كانت في غاية الحرارة ثم أخذت تبرد حتى جمدت وتكونت منها قشرة جامدة ثم تشققت وتفجرت وهبطت منها أقسام وعلت أقسام بالضغط إلا أن علماء طبقات الأرض يقدرون لحصول ذلك أزمنة متناهية الطول وقدرة الله صالحة لإحداث ما يحصل به ذلك التقلب في أمد قليل بمقارنة حوادث تعجل انقلاب المخلوقات عما هي عليه .
وأرجح القولين هو أن السماء خلقت قبل الأرض لأن لفظ { بعد ذلك } أظهر في إفادة التأخر من قوله : { ثم استوى إلى السماء } ولأن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي . وظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات متقدم على الأرض . وأحسب أن سلوك القرآن في هذه الآيات أسلوب الإجمال في هذا الغرض لقطع الخصومة بين أصحاب النظريتين .
والسماء إن أريد بها الجو المحيط بالكرة الأرضية فهو تابع لها متأخر عن خلقها ، وإن أريد بها الكواكب العلوية وذلك هو المناسب لقوله : { فسواهن سبع سموات } فالكواكب أعظم من الأرض فتكون أسبق خلقاً وقد يكون كل من الاحتمالين ملاحظاً في مواضع من القرآن غير الملاحظ فيها الاحتمال الآخر .
والاستواء أصله الاستقامة وعدم الاعوجاج يقال صراط مستو ، واستوى فلان وفلان واستوى الشيء مطاوع سواه ، ويطلق مجازاً على القصد إلى الشيء بعزم وسرعة كأنه يسير إليه مستوياً لا يلوي على شيء فيعدى بإلى فتكون { إلى } قرينة المجاز وهو تمثيل ، فمعنى استواء الله تعالى إلى السماء تعلق إرادته التنجيزي بإيجادها تعلقاً يشبه الاستواء في التهيىء للعمل العظيم المتقن .
ووزن استوى افتعل لأن السين فيه حرف أصلي وهو افتعال مجازي وفيه إشارة إلى أنه لما ابتدأ خلق المخلوقات خلق السماوات ومن فيها ليكون توطئة لخلق الأرض ثم خلق الإنسان وهو الذي سيقت القصة لأجله .
و ( سواهن ) أي خلقهن في استقامة ، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا ثلم .
وبين استوى وسواهن الجناس المحرف .
والسماء مشتقة من السمو وهو العلو واسم السماء يطلق على الواحد وعلى الجنس من العوالم العليا التي هي فوق العالم الأرضي والمراد به هنا الجنس بقرينة قوله : { فسواهن سبع سماوات } إذ جعلها سبعاً ، والضمير في قوله : { فسواهن } عائد إلى { السماء } باعتبار إرادة الجنس لأنه في معنى الجمع وجوز صاحب « الكشاف » أن يكون المراد من السماء هنا جهة العلو ، وهو وإن صح لكنه لا داعي إليه كما قاله التفتزاني .
وقد عد الله تعالى في هذه الآية وغيرها السماوات سبعاً وهو أعلم بها وبالمراد منها إلا أن الظاهر الذي دلت عليه القواعد العلمية أن المراد من السماوات الأجرام العلوية العظيمة وهي الكواكب السيارة المنتظمة مع الأرض في النظام الشمسي ويدل لذلك أمور :
أحدها : أن السماوات ذكرت في غالب مواضع القرآن مع ذكر الأرض وذكر خلقها هنا مع ذكر خلق الأرض فدل على أنها عوالم كالعالم الأرضي وهذا ثابت للسيارات .
ثانيها : أنها ذكرت مع الأرض من حيث إنها أدلة على بديع صنع الله تعالى فناسب أن يكون تفسيرها تلك الأجرام المشاهدة للناس المعروفة للأمم الدال نظام سيرها وباهر نورها على عظمة خالقها .
ثالثها : أنها وصفت بالسبع وقد كان علماء الهيئة يعرفون السيارات السبع من عهد الكلدان وتعاقب علماء الهيئة من ذلك العهد إلى العهد الذي نزل فيه القرآن فما اختلفوا في أنها سبع .
رابعها : أن هاته السيارات هي الكواكب المنضبط سيرها بنظام مرتبط مع نظام سير الشمس والأرض ، ولذلك يعبر عنها علماء الهيئة المتأخرون بالنظام الشمسي فناسب أن تكون هي التي قرن خلقها بخلق الأرض . وبعضهم يفسر السماوات بالأفلاك وهو تفسير لا يصح لأن الأفلاك هي الطرق التي تسلكها الكواكب السيارة في الفضاء{[105]} ، وهي خطوط فرضية لا ذوات لها في الخارج .
هذا وقد ذكر الله تعالى السماوات سبعاً هنا وفي غير آية ، وقد ذكر العرش والكرسي بما يدل على أنهما محيطان بالسماوات وجعل السماوات كلها في مقابلة الأرض وذلك يؤيد ما ذهب إليه علماء الهيئة من عد الكواكب السيارة تسعة وهذه أسماؤها على الترتيب في بعدها من الأرض : نِبْتون ، أُورَانوس ، زُحَل ، المشتري ، المريخ ، الشمس ، الزهرة ، عطارد ، بلكان .
والأرض في اصطلاحهم كوكب سيار ، وفي اصطلاح القرآن لم تعد معها لأنها التي منها تنظر الكواكب وعُد عوضاً عنها القمر وهو من توابع الأرض فعده معها عوض عن عد الأرض تقريباً لأفهام السامعين .
وأما الثوابت فهي عند علماء الهيئة شموس سابحة في شاسع الأبعاد عن الأرض وفي ذلك شكوك . ولعل الله لم يجعلها سماوات ذات نظام كنظام السيارات السبع فلم يعدها في السماوات أو أن الله إنما عد لنا السماوات التي هي مرتبطة بنظام أرضنا .
وقوله : { وهو بكل شيء عليم } نتيجة لما ذكره من دلائل القدرة التي لا تصدر إلا من عليم فلذلك قال المتكلمون : إن القدرة يجري تعلقها على وفق الإرادة ، والإرادةَ على وفق العلم . وفيه تعريض بالإنكار على كفرهم والتعجيب منه فإن العليم بكل شيء يقبح الكفر به .
وهذه الآية دليل على عموم العلم وقد قال بذلك جميع الملِّيِّين كما نقله المحقق السلكوتي في « الرسالة الخَاقَانِيَّة » وأنكر الفلاسفة علمه بالجزئيات وزعموا أن تعلق العلم بالجزئيات لا يليق بالعلم الإلهي وهو توهم لا داعي إليه .
وقرأ الجمهور هاء { وهو } بالضم على الأصل ، وقرأها قالون وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر بالسكون للتخفيف عند دخول حرف العطف عليه ، والسكون أكثر من الضم في كلامهم وذلك مع الواو والفاء ولاممِ الابتداء ووجهه أن الحروف التي هي على حرف واحد إذا دخلت على الكلمة تنزلت منزلة الجزء منها فصارت الكلمة ثقيلة بدخول ذلك الحرف فيها فخففت بالسكون كما فعلوا ذلك في حركة لام الأمر مع الواو والفاء ، ومما يدل على أن أفصح لغات العرب إسكان الهاء مِن { هو } إذا دخل عليه حرف ، أنك تجده في الشعر فلا يتزن البيت إلا بقراءة الهاء ساكنة ولا تكاد تجد غير ذلك بحيث لا يمكن دَعوى أنه ضرورة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا، لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع. أما في الدين فدليل على وحدانية ربهم، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه فلذلك قال جل ذكره:"هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا".
وقوله: «هو» مكنى من اسم الله جل ذكره، عائد على اسمه في قوله: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ". ومعنى خلقه ما خلق جل ثناؤه: إنشاؤه عينه، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود. و«ما» بمعنى «الذي».
فمعنى الكلام إذا: كيف تكفرون بالله وقد كنتم نطفا في أصلاب آبائكم، فجعلكم بشرا أحياء، ثم يميتكم، ثم هو محييكم بعد ذلك، وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب، وهو المنعم عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم.
عن قتادة قوله: "هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا": نعم والله سخر لكم ما في الأرض...
اختلف في تأويل قوله: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ..."؛
فقال بعضهم: معنى "استوى إلى السماء": أقبل عليها، كما تقول: كان فلان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ يشاتمني، واستوى إليّ يشاتمني، بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني.
وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوّل، ولكنه بمعنى فعله، كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ثم تحوّل إلى الشام، إنما يريد تحوّل فعله.
وقال بعضهم: قوله: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ "يعني به: استوت.
وقال بعضهم: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ": عمد إليها. وقال: بل كل تارك عملاً كان فيه إلى آخره فهو مستو لما عمد ومستو إليه.
وقال بعضهم: الاستواء: هو العلوّ، والعلوّ: هو الارتفاع؛ عن الربيع بن أنس: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ" يقول: ارتفع إلى السماء.
ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع في الذي استوى إلى السماء، فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها: هو خالقها ومنشئها.
وقال بعضهم: بل العالي إليها الدخان الذي جعله الله للأرض سماء...
الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه:
منها انتهاء شباب الرجل وقوّته، فيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل.
ومنها استقامة ما كان فيه أَوَدٌ من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره: إذا استقام له بعد أود.
ومنها الإقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه.
ومنها الاحتياز والاستيلاء كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازها.
ومنها العلوّ والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوّه عليه.
وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السماءِ فَسَوّاهُنْ": علا عليهنّ وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهنّ سبع سموات... والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ" الذي هو بمعنى العلوّ والارتفاع هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه. فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: "اسْتَوَى": أقْبَلَ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولاً لقول أهل الحقّ فيه مخالفا، وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى.
وإن قال لنا قائل: أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء، كان قبل خلق السماء أم بعده؟ قيل: بعده وقبل أن يسوّيهنّ سبع سموات، كما قال جل ثناؤه: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها" والاستواء كان بعد أن خلقها دخانا، وقبل أن يسوّيها سبع سموات...
والتسوية في كلام العرب: التقويم والإصلاح والتوطئة، كما يقال: سوّى فلان لفلان هذا الأمر: إذا قوّمه وأصلحه ووطأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سماواته: تقويمه إياهن على مشيئته، وتدبيره لهن على إرادته، وتفتيقهن بعد إرتاقهن...
عن الربيع بن أنس: "فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ" يقول: سوى خلقهن وهو بكل شيء عليم.
وقال جل ذكره: "فَسَوّاهُنّ" فأخرج مكنيّهن مخرج مكنى الجمع. وقد قال قبل: "ثم استوى إلى السماء" فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيهن مخرج مكنيّ الجمع لأن السماء جمع واحدها سماوة... فمعنى الكلام إذا: هو الذي أنعم عليكم، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخره لكم تفضلاً منه بذلك عليكم، ليكون لكم بلاغا في دنياكم، ومتاعا إلى موافاة آجالكم، ودليلاً لكم على وحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان، فسوّاهن وحبكهن، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه، وقدّر في كل واحدة منهنّ ما قدّر من خلقه...
"وهُوَ بِكُلّ شيْءٍ عَلِيمٌ". يعني بقوله جلّ جلاله: "وهو": نفسه، وبقوله: "بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ": أن الذي خلقكم وخلق لكم ما في الأرض جميعا، وسّوى السموات السبع بما فيهن، فأحكمهن من دخان الماء وأتقن صنعهن، لا يخفى عليه أيها المنافقون والملحدون الكافرُونَ به من أهل الكتاب، ما تبدون وما تكتمون في أنفسكم، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: "آمَنّا بِاللّهِ وباليَوْمِ الاَخِرِ" وهم على التكذيب به منطوون. وكذبت أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور وهم بصحته عارفون، وجحدوا وكتموا ما قد أخذت عليهم ببيانه لخلقي من أمر محمد ونبوّته المواثيق، وهم به عالمون، بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم، وأمور غيركم، إني بكل شيء عليم.
وقوله: "عَلِيمٌ" بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو الذي قد كمل في علمه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقد استدل بقوله: {خَلَقَ لَكُمْ} على أنّ الأشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل مباحة مطلقاً لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها. فإن قلت: هل لقول من زعم أنّ المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟ قلت: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء وتراد الجهات العلوية: جاز ذلك، فإنّ الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية...
والاستواء: الاعتدال والاستقامة.
ومعنى تسويتهنّ: تعديل خلقهنّ، وتقديمه، وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهنّ {وَهُوَ بِكُلّ شيء عَلِيمٌ} فمن ثم خلقهنّ خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت مع خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {خلق} معناه اخترع وأوجد بعد العدم.
و {لكم}: معناه للاعتبار، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء، والإماتة، والخلق، والاستواء إلى السماء وتسويتها (87).
وقال قوم: بل معنى {لكم} إباحة الأشياء وتمليكها، وهذا قول من يقول إن الأشياء قبل ورود السمع على الإباحة بينته هذه الآية (88)، وخالفهم في هذا التأويل القائلون بالحظر، والقائلون بالوقف، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة كالتنفس، والحركة ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين بالإباحة كل تحليل في القرآن وإباحة، ويترجح الوقوف إذا قدرنا نازلة لا يوجد فيه سمع ولا تتعلق به.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الصحيح في معنى قوله تعالى:"خلق لكم ما في الأرض" الاعتبار. يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السموات والأرض، لا تبعد منه القدرة على الإعادة.
فإن قيل: إن معنى "لكم "الانتفاع، أي: لتنفعوا بجميع ذلك، قلنا المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا.
فإن قيل: وأي اعتبار في العقارب والحيات. قلنا: قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببا للإيمان وترك المعاصي، وذلك أعظم الاعتبار...
قال أرباب المعاني في قوله: "خلق لكم ما في الأرض جميعا" لتتقووا به على طاعته، لا لتصرفوه في وجوه معصيته. وقال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده، وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد.
[و] روى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاء شيء قضينا) فقال له عمر: هذا أعطيت إذا كان عندك فما كلفك الله ما لا تقدر. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله: أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف السرور في وجهه لقول الأنصاري. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بذلك أمرت).
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فخوف الإقلال من سوء الظن بالله؛ لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم، وقال في تنزيله: "خلق لكم ما في الأرض جميعا" "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه" [الجاثية: 13]. فهذه الأشياء كلها مسخرة للآدمي قطعا لعذره وحجة عليه؛ ليكون له عبد ا كما خلقه عبدا، فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه، كما قال تعالى: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" [سبأ: 39] وقال: "فإن ربي غني كريم" [النمل: 40]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا). وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضا، وهذا كله صحيح رواه الأئمة والحمد لله. فمن استنار صدره، وعلم غنى ربه وكرمه أنفق ولم يخف الإقلال، وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته، وانقطعت مشيئته لنفسه، فهذا يعطي من يسره وعسره ولا يخاف إقلالا. وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء، فإذا أعطي اليوم وله غدا مشيئة في شيء خاف ألا يصيب غدا، فيضيق عليه الأمر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله. روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (انفحي أو انضحي أو أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي عليك).
وروى النسائي عن عائشة قالت: دخل علي سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما تريدين ألا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك) قلت: نعم، قال: (مهلا يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك).
قوله تعالى: "وهو بكل شيء عليم" أي بما خلق وهو خالق كل شيء، فوجب أن يكون عالما بكل شيء، وقد قال: "ألا يعلم من خلق" [الملك: 14] فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته... وقد وصف نفسه سبحانه بالعلم فقال: "أنزله بعلمه والملائكة يشهدون" [النساء: 166]، وقال: "فاعلموا أنما أنزل بعلم الله" [هود: 14]، وقال: "فلنقصن عليهم بعلم" [الأعراف: 7]، وقال: "وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه" [فاطر: 11]، وقال: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" [الأنعام: 59] الآية.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{فَسَوَّاهُنَّ} أي أتمهنّ وقوَّمهن وخلقهنّ ابتداءً مصونةً عن العِوَج والفُطورِ...
وتأخيرُ ذكرِ هذا الصُنع البديعِ عن ذكر خلقِ ما في الأرض مع كونه أقوى منه في الدلالة على كمال القدرةِ القاهرةِ كما نُبه عليه لما أن المنافعَ المنوطةَ بما في الأرض أكثرُ، وتعلقَ مصالحِ الناسِ بذلك أظهر، وإن كان في إبداع العلوياتِ أيضاً من المنافع الدينيةِ والدنيويةِ ما لا يُحصى. هذا ما قالوا، وسيأتي في حم السجدة مزيدُ تحقيقٍ وتفصيلٍ بإذن الله تعالى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} فالكلام على اتصاله وترتيبه وانتظام جواهره في سلك أسلوبه، فليس في قوله {كيف تكفرون} الخ انتقال لإثبات البعث كما قال بعض المفسرين، غفلة عن هذا الاتصال المتين، ولعمري إن وجوه الاتصال بين الآيات، وما فيها من دقائق المناسبات، لهي ضرب من ضروب البلاغة، وفن من فنون الإعجاز، إذا أمكن للبشر الإشراف عليه، فلا يمكنهم البلوغ إليه، والكلام في البعث في القرآن كثيرا جدا فلا حاجة إلى الإسراع إليه هنا.
يصور لنا قوله تعالى {خلق لكم} قدرته الكاملة، ونعمه الشاملة، وأي قدرة أكبر من قدرة الخالق؟ وأي نعمة أكمل من جعل كل ما في الأرض مهيئا لنا، ومعدا لمنافعنا؟ وللانتفاع بالأرض طريقان (أحدهما) الانتفاع بأعينها في الحياة الجسدية (وثانيهما) النظر والاعتبار بها في الحياة العقلية، والأرض هي ما في الجهة السفلى، أي ما تحت أرجلنا، كما أن المراد بالسماء كل ما في الجهة العليا أي فوق رؤوسنا وإننا ننتفع بكل ما في الأرض برها وبحرها من حيوان ونبات وجماد، ومالا تصل إليه أيدينا ننتفع فيه بعقولنا بالاستدلال به على قدرة مبدعه وحكمته. والتعبير بقي يتناول ما في جوف الأرض من المعادن بالنص الصريح.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء، يتحدثون عن القبلية والبعدية. ويتحدثون عن الاستواء والتسوية.. وينسون أن "قبل وبعد "اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى؛ وينسون أن الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود.. ولا يزيدان.. وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية، إلا آفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى، عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية، وللعقلية الإسلامية الناصعة.. وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة، فنفسد جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام!!... فلنخلص إذن إلى ما وراء هذه التعبيرات من حقائق موحية عن خلق ما في الأرض جميعا للإنسان، ودلالة هذه الحقيقة على غاية الوجود الإنساني، وعلى دوره العظيم في الأرض، وعلى قيمته في ميزان الله، وما وراء هذا كله من تقرير قيمة الإنسان في التصور الإسلامي؛ وفي نظام المجتمع الإسلامي..
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)..
إن كلمة (لكم) هنا ذات مدلول عميق وذات إيحاء كذلك عميق. إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان لأمر عظيم. خلقه ليكون مستخلفا في الأرض، مالكا لما فيها، فاعلا مؤثرا فيها. إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض؛ والسيد الأول في هذا الميراث الواسع. ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول؛ إنه سيد الأرض وسيد الآلة! إنه ليس عبدا للآلة كما هو في العالم المادي اليوم. وليس تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي أنصار المادية المطموسون، الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه، فيجعلونه تابعا للآلة الصماء وهو السيد الكريم! وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان، ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه؛ وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان، مهما يحقق من مزايا مادية، هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني. فكرامة الإنسان أولا، واستعلاء الإنسان أولا، ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة.
والنعمة التي يمتن الله بها على الناس هنا -وهو يستنكر كفرهم به- ليست مجرد الإنعام عليهم بما في الأرض جميعا، ولكنها -إلى ذلك- سيادتهم على ما في الأرض جميعا، ومنحهم قيمة أعلى من قيم الماديات التي تحويها الأرض جميعا. هي نعمة الاستخلاف والتكريم فوق نعمة الملك والانتفاع العظيم.
(ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات)..
ولا مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز السيطرة، والقصد بإرادة الخلق والتكوين. كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع المقصودة هنا وتحديد أشكالها وأبعادها. اكتفاء بالقصد الكلي من هذا النص، وهو التسوية للكون أرضه وسمائه في معرض استنكار كفر الناس بالخالق المهيمن المسيطر على الكون، الذي سخر لهم الأرض بما فيها، ونسق السماوات بما يجعل الحياة على الأرض ممكنة مريحة.
بما أنه الخالق لكل شيء، المدبر لكل شيء. وشمول العلم في هذا المقام كشمول التدبير. حافز من حوافز الإيمان بالخالق الواحد، والتوجه بالعبادة للمدبر الواحد، وإفراد الرازق المنعم بالعبادة اعترافا بالجميل.
وهكذا تنتهي الجولة الأولى في السورة.. وكلها تركيز على الإيمان، والدعوة إلى اختيار موكب المؤمنين المتقين..