وقوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : يا من ليس{[8457]} هَمُّه إلا الدنيا ، اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة ، وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك ، كما قال تعالى : { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ]{[8458]} } [ البقرة : 200 - 202 ] ، وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ]{[8459]} } [ الشورى : 20 ] ، وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا . وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا . كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا . انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ]{[8460]} } [ الإسراء : 18 - 21 ] .
وقد زعم ابن جرير أن المعنى في هذه الآية : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا } أي : من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لأجل ذلك ، { فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا } وهو ما حصل لهم من المغانم وغيرها مع المسلمين . وقوله : { وَالآخِرَةِ } أي : وعند الله{[8461]} ثواب الآخرة ، وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم . وجعلها كقوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ]{[8462]} وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ هود : 15 ، 16 ] .
ولا شك أن هذه الآية معناها ظاهر ، وأما تفسيره الآية الأولى بهذا ففيه نظر ؛ فإن قوله { فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } ظاهر في حضور الخير في الدنيا والآخرة ، أي : بيده هذا وهذا ، فلا يقْتَصِرَنَّ قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط ، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة ، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع ، وهو الله الذي لا إله إلا هو ، الذي قد قسم السعادة والشقاوة في الدنيا والآخرة بين الناس ، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ، ممن يستحق هذا ، وممن يستحق{[8463]} هذا ؛ ولهذا قال : { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا }
لمّا كان شأن التقوى عظيماً على النفوس ، لأنّها يصرفها عنها استعجال الناس لمنافع الدنيا على خيرات الآخرة ، نبّههم الله إلى أنّ خير الدنيا بيد الله ، وخير الآخرة أيضاً ، فإن اتقوه نالوا الخيرين .
ويجوز أن تكون الآية تعليماً للمؤمنين أن لا يصدّهم الإيمان عن طلب ثواب الدنيا ، إذ الكلّ من فضل الله . ويجوز أن تكون تذكيراً للمؤمنين بأن لا يلهيهم طلب خير الدنيا عن طلب الآخرة ، إذ الجمع بينهما أفضل ، وكلاهما من عند الله ، على نحو قوله : « فمنهم من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب بما كسبوا » أو هي تعليم للمؤمنين أن لا يطلبوا خير الدنيا من طرق الحرام ، فإنّ في الحلال سعة لهم ومندوحة ، وليتطلّبوه من الحلال يُسهِّلْ لهم الله حصوله ، إذ الخير كلّه بيد الله ، فيوشك أن يَحرم من يتطلّبه من وجه لا يرضيه أو لا يباركَ له فيه . والمراد بالثواب في الآية معناه اللغوي دون الشرعي ، وهو الخير وما يرجع به طالب النفع من وجوه النفع ، مشتقّ من ثاب بمعنى رجع . وعلى الاحتمالات كلّها فجواب الشرط ب« منَ كان يريد ثواب الدنيا » محذوف ، تدلّ عليه علّته ، والتقدير : من كان يريد ثواب الدنيا فلا يُعرض عن دين الله ، أو فلا يصدّ عن سؤاله ، أو فلا يقتصر على سؤاله ، أو فلا يحصّله من وجوه لا ترضي الله تعالى : كما فعل بنو أبيرق وأضرابهم ، وليتطلّبه من وجوه البرّ لأنّ فضل الله يسع الخيرين ، والكلّ من عنده . وهذا كقول القطامي :
فمن تَكُن الحضارة أعجبته *** فأيُّ رجال بادية ترانا
التقدير : فلا يغترر أو لا يبتهج بالحضارة ، فإنّ حالنا دليل على شرف البداوة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{من كان يريد ثواب الدنيا} بعمله فليعمل لآخرته، {فعند الله ثواب الدنيا}: الرزق في الدنيا وثواب {والآخرة}: الجنة. {وكان الله سميعا بصيرا} بأعمالكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{مَنْ كانَ يُرِيدُ} ممن أظهر الإيمان لمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل النفاق الذين يستبطنون الكفر وهم مع ذلك يظهرون الإيمان. {ثَوَابَ الدّنيْا}: عرض الدنيا، بإظهار ما أظهر من الإيمان بلسانه، {فَعِنْدَ اللّهِ ثَوَابُ الدّنيْا}: جزاؤه في الدنيا منها وثوابه فيها، هو ما يصيب من المغنم إذا شهد مع النبيّ مشهدا، وأمنه على نفسه وذرّيته وماله، وما أشبه ذلك. وأما ثوابه في الاَخرة فنار جهنم. فمعنى الآية: من كان من العاملين في الدنيا من المنافقين يريد بعمله ثواب الدنيا وجزاءها من عمله، فإن الله مجازيه جزاءه في الدنيا من الدنيا، وجزاءه في الآخرة من العقاب والنكال وذلك أن الله قادر على ذلك كله، وهو مالك جميعه، كما قال في الآية الأخرى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنيْا وَزِينَتَها نُوَفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَة إلاّ النّارُ وَحبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}. وإنما عنى بذلك جلّ ثناؤه الذين سعوا في أمر بني أبيرق، والذين وصفهم في قوله: {وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاس وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيّنُونَ ما لا يَرْضَى مِنَ القَوْل مِنَ القَوْلِ} ومن كان من نظرائهم في أفعالهم ونفاقهم.
{كانَ اللّهُ سَمِيعا بَصِيرا}: وكان الله سميعا لما يقول هؤلاء المنافقون الذين يريدون ثواب الدنيا بأعمالهم، وإظهارهم للمؤمنين ما يظهرون لهم إذا لقوا المؤمنين وقولهم لهم آمنا. {بَصِيرا}: وكان ذا بصر بهم وبما هم عليه منطوون للمؤمنين فيما يكتمونه ولا يبدونه لهم من الغشّ والغلّ الذي في صدورهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعض أهل التأويل: من كان يريد بعمله الذي يعمله عرض الدنيا، ولا يريد به الله، آتاه الله ما أحب من عرض الدنيا، أو دفع عنه ما أحب في الدنيا، ليس له في الآخرة من ثواب لأنه عمل لغير الله، هو كقوله عز وجل: {من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق} (البقرة: 200) ومن أراد بعمله الذي يعمله في الدنيا ثواب الآخرة آتاه الله تعالى من عرض الدنيا ما أحب، ودفع عنه، وجزاه في الآخرة الجنة بعمله في الدنيا، والله أعلم. وتحتمل الآية غير هذا (وجهين: أحدهما): أنهم يتخذون من دون الله آلهة يعبدونها طلبا للرئاسة والعز والشرف كقوله تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا} (مريم: 81و82) فأخبر أن العز والشرف ليس في ذلك، ولكن عند الله عز الدنيا والآخرة. والثاني: أنهم كانوا يعبدون الأوثان والأصنام، ويقولون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر: 3) ويقولون: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (يونس: 18) فأخبر أن ليس في عبادتكم هذه الأصنام منافع تأملون بذلك في الدنيا، والسعة في الدنيا كقوله تعالى: {إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه} الآية (العنكبوت: 17). فعلى ذلك قوله عز وجل: {من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} لا ما تطلبون،...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا علَّقوا قلوبهم بالعاجل من الدنيا ذكَّرهم حديث الآخرة، فقال: {فَعِندَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} تعريفاً لهم أنَّ فوق هممهم من هذه الخسيسة ما هو أعلى منها من نعيم الآخرة، فلمَّا سَمَتْ إلى الآخرة قصودُهم قطعهم عن كل مرسوم ومخلوق بقوله: {وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا} كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة، {فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والأخرة} فماله يطلب أحدهما دون الآخر والذي يطلبه أخسهما، لأن من جاهد لله خالصاً لم تخطئه الغنيمة، وله من ثواب الآخرة ما الغنيمة إلى جنبه كلا شيء. والمعنى: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده حتى يتعلق الجزاء بالشرط.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
من كان لا مراد له إلا في ثواب الدنيا ولا يعتقد أن ثم سواه، فليس هو كما ظن، بل عند الله تعالى ثواب الدارين، فمن قصد الآخرة أعطاه الله من ثواب الدنيا وأعطاه قصده، ومن قصد الدنيا فقط أعطاه من الدنيا ما قدر له، وكان له في الآخرة العذاب، والله تعالى «سميع» للأقوال، «بصير» بالأعمال والنيات...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان في هذا تهديد بليغ وتعريف بسعة الملك وكمال التصرف، وكان مدار أحوال المتشاححين في الإرث وحقوق الأزواج وغيرها الأمرَ الدنيوي، وكان سبحانه وتعالى قد بين فيما مضى أن مبنى أحوال المنافقين على طلب العرض الفاني خصوصاً قصة طعمة بن أبيرق الراضي لنفسه بالفضيحة في نيل شيء تافه؛ قال تعالى تفييلاً لآرائهم وتخسيساً لهممهم حيث نزلوا إلى الأدنى مع القوة على طلب الأعلى مع طلب الأدنى أيضاً منه تعالى، فلا يفوتهم شيء من معوّلهم مع إحراز الأنفس: {ما كان يريد ثواب الدنيا} لقصور نظره على المحسوس الحاضر مع خسته كالبهائم {فعند} أي فليقبل إلى الله فإنه عند {الله} أي الذي له الكمال المطلق {ثواب الدنيا} الخسيسة الفانية {والآخرة} أي النفسية الباقية فليطلبها منه،... ولما كان الناشيء عن الإرادة إما قولاً أو فعلاً، وكان الفعل قد يكون قلبياً قال: {وكان الله} أي المختص بجميع صفات الكمال {سميعاً} أي بالغ السمع لكل قول وإن خفي، نفسياً كان أو لسانياً {بصيراً} أي بالغ البصر لكل ما يمكن أن يبصر من الأفعال، والعلم بكل ما يبصر وما لا يبصر منها ومن غيرها، فيكون من البصر ومن البصيرة، فليراقبه العبد قولاً وفعلاً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{من كان يريد} منكم بسعيه وكدحه وجهاده في حياته {ثواب الدنيا} ونعيمها بالمال والجاه {فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} جميعا وقد وهبكم من القوى والجوارح وهداية الحواس والعقل والوجدان والدين ما يمكنكم به نيل ذلك فعليكم أن تطلبوا الثوابين جميعا ولا تكتفوا بالأدنى الفاني عن الأعلى الباقي والجمع بينهما ميسور لكم، ومما تناله قدرتكم، فمن سفه النفس، وأفن الرأي، أن ترغبوا عنه. والآية تدل على أن الإسلام يهدي أهله إلى سعادة الدارين، وأن يتذكروا أن كلا من ثواب الدنيا وثواب الآخرة من فضل الله ورحمته...
{وكان الله سميعا بصيرا} سميعا لأقوال العباد في مخاطباتهم ومناجاتهم، بصيرا بجميع أمورهم في جميع حالاتهم، فيجب عليهم أن يراقبوه في أقوالهم وأفعالهم، فذلك الذي يعينهم على تزكية نفوسهم، والوقوف عند حدود العدل والفضيلة التي يستقيم بها أمر دنياهم، ويستعدون به للحياة الأبدية في آخرتهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه ليكون من الحمق، كما يكون من سقوط الهمة، أن يملك الإنسان التطلع إلى الدنيا والآخرة معا؛ وإلى ثواب الدنيا وثواب الآخرة جميعا -وهذا ما يكفله المنهج الإسلامي المتكامل الواقعي المثالي- ثم يكتفي بطلب الدنيا، ويضع فيها همه؛ ويعيش كالحيوان والدواب والهوام؛ بينما هو يملك أن يعيش كالإنسان! قدم تدب على الأرض وروح ترف في السماء. وكيان يتحرك وفق قوانين هذه الأرض؛ ويملك في الوقت ذاته أن يعيش مع الملأ الأعلى! وأخيرا فإن هذه التعقيبات المتنوعة -كما تدل على الصلة الوثيقة بين الأحكام الجزئية في شريعة الله والمنهج الكلي للحياة- تدل في الوقت ذاته على خطورة شأن الأسرة في حساب الإسلام. حتى ليربطها بهذه الشؤون الكبرى؛ ويعقب عليها بوصية التقوى الشاملة للأديان جميعا؛ وإلا فالله قادر على أن يذهب بالناس ويأتي بغيرهم يتبعون وصيته؛ ويقيمون شريعته.. وهو تعقيب خطير. يدل على أن أمر الأسرة كذلك خطير في حساب الله. وفي منهجه للحياة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لمّا كان شأن التقوى عظيماً على النفوس، لأنّه يصرفها عنها استعجال الناس لمنافع الدنيا على خيرات الآخرة، نبّههم الله إلى أنّ خير الدنيا بيد الله، وخير الآخرة أيضاً، فإن اتقوه نالوا الخيرين. ويجوز أن تكون الآية تعليماً للمؤمنين أن لا يصدّهم الإيمان عن طلب ثواب الدنيا، إذ الكلّ من فضل الله. ويجوز أن تكون تذكيراً للمؤمنين بأن لا يلهيهم طلب خير الدنيا عن طلب الآخرة، إذ الجمع بينهما أفضل،.. أو هي تعليم للمؤمنين أن لا يطلبوا خير الدنيا من طرق الحرام، فإنّ في الحلال سعة لهم ومندوحة، وليتطلّبوه من الحلال يُسهِّلْ لهم الله حصوله، إذ الخير كلّه بيد الله، فيوشك أن يَحرم من يتطلّبه من وجه لا يرضيه أو لا يباركَ له فيه. والمراد بالثواب في الآية معناه اللغوي دون الشرعي، وهو الخير وما يرجع به طالب النفع من وجوه النفع، مشتقّ من ثاب بمعنى رجع...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهذا الكلام يطوي في ثناياه معاني ثلاثة:
أولها: أن الاستجابة لما يطلبه الله سبحانه وتعالى تؤدي إلى خير الدنيا من عزة ورفعة وقوة وسلطان في الأرض، وتعاون على إصلاحها ومنع فسادها وتواصل وتراحم من غير تقاطع ولا تدابر.
ثانيها: أن من يطلب الدنيا من غير طلب الآخرة ولا يستجيب لداعي الله، يكون قد طلب الأخس وترك الأخطر منهما، ولا يكون طالبا لها على وجه الحق، ويكون محاسبا على كل ما نال من مغانم في هذه، ولذا قال تعالى: {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها... (145)} (آل عمران: 145).
ثالثها: أن النص الكريم يفيد قدرة الله تعالى وكمال سلطانه، وعدله في الثواب والعقاب، وأنه يعلم الخير ويجزي عليه والشر ويعاقب صاحبه...
وكلمة "ثواب "فيها ملحظ، فهناك أشياء تفعل لك وإن لم تطلب منها أن تفعل وتنتفع بعملها وإن لم تطلب من الأشياء أن تفعل وهناك أشياء أخرى تنفعل بحركتك فإن تحركت وسعيت وعملت فيها تعطك. فالارتقاءات الحضارية تأتي عن طريق تعامل الإنسان مع القسم الذي ينفعل للإنسان واستحثاث واستخدام ما يفعل له بطريقته التلقائية لينفعل معه وكلمة "ثواب" إذن توحي بأن هناك عملا، فالثواب جزاء على عمل فإن أردت ثواب الدنيا، فلا بد أن تعمل من أجل ذلك فلا أحد يأخذ ثواب الدنيا بدون عمل. ومن عظمة الحق ولطفه وفضله ورحمته أن جعل ثواب الدنيا جائزة لمن يعمل، سواء آمن أم كفر، ولكنه خص المؤمنين بثواب باق في الآخرة. ولذلك يقال: "الدنيا متاع"، ويزيد الحق على ذلك:"فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا". ومن الحمق أن يوجد طريق يعطي الإنسان جزاءين ثم يقصر همته على جزاء واحد. وهنا ملحظ آخر، فحينما تكلم الحق عن ثواب الدنيا دل على أنه لا بد من العمل لنأخذ الدنيا ولم يذكر الحق ثوابا للآخرة، بل جعل سبحانه الثواب للاثنين الدنيا والآخرة، إذن فالذي يعمل للدنيا من المؤمنين إنما يأخذ الآخرة أيضا، لأن الآخرة هي دار جزاء، والدنيا هي مطية وطريق وسبيل فكأن كل عمل يفعله المسلم ويجعل الله في باله فالله يعطيه ثوابا في الدنيا، ويعطيه ثوابا في الآخرة. ويذيل الحق الآية: "وكان الله سميعا بصيرا" إذن فثواب الدنيا والآخرة لا يتأتى إلا بالعمل والعمل هو كل حدث يحدث من جوارح الإنسان، القول مثلا حدث من اللسان وهو عمل أيضا والمقابل للقول هو الفعل فالأعمال تنقسم إلى قسمين: إلى الأقوال وإلى الأفعال ولتوضيح هذا الأمر نقرأ قول الحق: {كلا بل لا تكرمون اليتيم (17) ولا تحاضون على طعام المسكين (18) وتأكلون التراث أكلا لما (19)} (سورة الفجر). فثواب الدنيا يحتاج إلى عمل والعمل هو انفعال كل جارحة بمطلوبها فاللسان جارحة تتكلم واليد تعمل، وكل جوارح الإنسان تعمل لكن ما عمل القلوب؟ عمل القلوب لا يسمع ولا يرى وهكذا نعرف أن نية القلوب خاصة بالله مباشرة ولا تدخل في اختصاص رقيب وعتيد وهما الملكان المختصان برقابة وكتابة سلوك وعمل الإنسان، ولذلك نجد الحق يصف ذاته في مواقع كثيرة من القرآن بأنه لطيف خبير، لطيف بعلم ما يدخل ويتغلغل في الأشياء وخبير بكل شيء وقدير على كل شيء..