{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ }
[ يقال : مثل ومثل ومثيل - أيضا - والجمع أمثال ، قال الله تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ]{[1298]} .
وتقدير هذا المثل : أن الله سبحانه ، شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى ، وصيرورتهم بعد التبصرة إلى العمى ، بمن استوقد نارًا ، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله ، وتَأنَّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره ، وصار في ظلام شديد ، لا يبصر ولا يهتدي ، وهو مع ذلك أصم لا يسمع ، أبكم لا ينطق ، أعمى لو كان ضياء لما أبصر ؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك ، فكذلك هؤلاء{[1299]} المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى ، واستحبابهم الغَيّ على الرّشَد . وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا ، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع ، والله أعلم .
وقد حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال : والتشبيه هاهنا في غاية الصحة ؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النور فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين .
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] .
والصواب : أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ، ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم ، ولم يستحضر ابن جرير ، رحمه الله ، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 3 ] ؛ فلهذا وجه [ ابن جرير ]{[1300]} هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان ، أي في الدنيا ، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة .
قال : وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد ، كما قال : { رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [ الأحزاب : 19 ] أي : كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] وقال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } [ الجمعة : 5 ] ، وقال بعضهم : تقدير الكلام : مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا . وقال بعضهم : المستوقد واحد لجماعة معه . وقال آخرون : الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أم خالد{[1301]}
قلت : وقد التفت في أثناء المثل من الواحد{[1302]} إلى الجمع ، في قوله تعالى : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } وهذا أفصح في الكلام ، وأبلغ في النظام ، وقوله تعالى : { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } أي : ذهب عنهم ما ينفعهم ، وهو النور ، وأبقى لهم ما يضرهم ، وهو الإحراق والدخان { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق ، { لا يُبْصِرُونَ } لا يهتدون إلى سبل{[1303]} خير ولا يعرفونها ، وهم مع ذلك { صُمٌّ } لا يسمعون خيرا { بُكْمٌ } لا يتكلمون بما ينفعهم { عُمْيٌ } في ضلالة وعماية البصيرة ، كما قال تعالى : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة .
ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه :
قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ، في قوله تعالى : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } زعم أن ناسًا دخلوا في الإسلام مَقْدَم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، ثم إنهم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة ، فأوقد نارًا ، فأضاءت ما حوله من قذى ، أو أذى ، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه{[1304]} فبينا{[1305]} هو كذلك إذ طفئت ناره ، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى ، فكذلك المنافق : كان في ظلمة الشرك فأسلم ، فعرف الحلال والحرام ، و[ عرف ]{[1306]} الخير والشر ، فبينا{[1307]} هو كذلك إذ كفر ، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ، ولا الخير من الشر .
وقال مجاهد : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ }{[1308]} أما إضاءة النار فإقبالهم{[1309]} إلى المؤمنين ، والهدى .
وقال عطاء الخرساني في قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } قال : هذا مثل المنافق ، يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا ، ثم يدركه عمى القلب .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ، والحسن والسدي ، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، في قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } إلى آخر الآية ، قال : هذه صفة المنافقين . كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم ، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا{[1310]} ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه ، كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون .
وقال العوفي ، عن ابن عباس ، في هذه الآية ، قال : أما النور : فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به ، وأمَّا الظلمة : فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به ، وهم قوم كانوا على هدى ، ثمّ نزع منهم ، فعتوا بعد ذلك .
وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } قال : هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام ، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العِزّ ، كما سُلِب صاحب النار ضَوءه .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الرّبيع بن أنس ، عن أبي العالية : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } فإنما ضوء النار ما أوقدتها ، فإذا خمدت ذهب نورها ، وكذلك المنافق ، كلما تكلم بكلمة الإخلاص ، بلا إله إلا الله ، أضاء له ، فإذا شك وقع في الظلمة .
وقال الضحاك [ في قوله ]{[1311]} { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } فهي{[1312]} لا إله إلا الله ؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا ، ونكحوا النساء ، وحقنوا دماءهم ، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون .
وقال سعيد ، عن قتادة في هذه الآية : إن المعنى : أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له الدنيا ، فناكح بها المسلمين ، وغازاهم بها ، ووارثهم بها ، وحقن بها دمه وماله ، فلما كان عند الموت ،
سلبها المنافق ؛ لأنه{[1313]} لم يكن لها أصل في قلبه ، ولا حقيقة في عمله{[1314]} .
{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } يقول : في عذاب إذا ماتوا .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } أي يبصرون الحق ويقولون به ، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم{[1315]} ونفاقهم فيه ، فتركهم الله في ظلمات الكفر ، فهم لا يبصرون هدى ، ولا يستقيمون على حق .
وقال السدي في تفسيره بسنده : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } فكانت الظلمة نفاقهم .
وقال الحسن البصري : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ } فذلك{[1316]} حين يموت المنافق ، فيظلم عليه عمله عمل السوء ، فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق{[1317]} به قول : لا إله إلا الله{[1318]} . { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } قال السدي بسنده : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } فهم خرس عمي{[1319]} .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } يقول : لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه ، وكذا قال أبو العالية ، وقتادة بن دعامة .
{ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } قال ابن عباس : أي لا يرجعون إلى هدى ، وكذلك{[1320]} قال الرّبيع بن أنس .
وقال السدي بسنده : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } إلى الإسلام .
وقال قتادة : { فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } أي لا يتوبون{[1321]} ولا هم يذكرون .
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ( 17 )
«المَثَل والمِثْل والمثيل » واحد ، معناه الشبه( {[278]} ) ، هكذا نص أهل اللغة والمتماثلان المتشابهان وقد يكون مثل الشيء جرماً مثله ، وقد( {[279]} ) يكون ما تعقل النفس وتتوهمه من الشيء مثلاً له ، فقوله تعالى : { مثلهم كمثل } معناه أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد ، وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله تعالى : { مثل الجنة }( {[280]} ) [ الرعد : 35 ، محمد : 15 ] وفي تفسير قوله تعالى : { ليس كمثله شيء }( {[281]} ) [ الشورى : 11 ] لأن ما يتحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه شيء ، وذلك المتحصل هو المثل الأعلى الذي في قوله عز وجل : { ولله المثل الأعلى }( {[282]} ) [ النحل : 6 ] . وقد جاء في تفسيره أنه لا إله إلا الله ففسر بجهة الوحدانية .
وقوله : { مثلهم } رفع بالابتداء والخبر في الكاف ، وهي على هذا اسم كما هي في قول الأعشى : [ البسيط ] .
أتنتهون ولا ينهى ذوي شططٍ . . . كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً( {[283]} ) تقديره مثلهم مستقر كمثل ، فالكاف على هذا حرف ، ولا يجوز ذلك في بيت الأعشى لأن المحذوف فاعل تقديره شيء كالطعن ، والفاعل لا يجوز حذفه عند جمهور البصريين ، ويجوز حذف خبر الابتداء إذا كان الكلام دالاً عليه ، وجوز الأخفش حذف الفاعل ، وأن يكون الكاف في بيت الأعشى حرفاً ووحد الذي( {[284]} ) لأنه لم يقصد تشبيه الجماعة بالجماعة ، وإنما المقصد أن كل واحد من المنافقين فعله كفعل المستوقد ، و { الذي } أيضاً ليس بإشارة إلى واحد ولا بد ، بل إلى هذا الفعل : وقع من واحد أو من جماعة .
قال النحويون ، الذي اسم مبهم يقع للواحد والجميع( {[285]} ) . و { استوقد } قيل معناه أوقد ، فذلك بمنزلة عجب واستعجب بمعنى .
قال أبو علي : وبمنزلة هزىء واستهزأ وسخر واستسخر ، وقر واستقر وعلا قرنه واستعلاه ، وقد جاء استفعل بمعنى أفعل أجاب واستجاب ومنه قول الشاعر( {[286]} ) [ كعب بن سعد الغنوي ] : [ الطويل ] .
وداع دعا يا من يجيب إلى النَّدى . . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وأخلف لأهله واستخلف إذا جلب لهم الماء( {[287]} ) ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
ومستخلفات من بلاد تنوفة . . . لمصفرة الأشداق حمر الحواصل( {[288]} )
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . سقاها فروّاها من الماء مخلف( {[289]} )
ومنه أوقد واستوقد قاله أبو زيد ، وقيل استوقد يراد به طلب من غيره أن يوقد له على المشهور من باب استفعل ، وذلك يقتضي حاجته إلى النار ، فانطفاؤها مع حاجته إليها أنكى له . واختلف في { أضاءت } فقيل يتعدى لأنه نقل بالهمزة من ضاء ، ومنه( {[290]} ) قول العباس بن عبد المطلب في النبي صلى الله عليه وسلم : [ المنسرح ]
وأنت لما ولدت أشرقَتِ الأر *** ضُ وضاءت بنورك الطرق
وعلى هذا ، ف { ما } في قوله : { ما حوله } مفعولة ، وقيل ( أضاءت ) لا تتعدى ، لأنه يقال ضاء وأضاء بمعنى ، ف ( ما ) زائدة ، وحوله ظرف .
واختلف المتأولون في على المنافقين الذي يشبه فعل ( الذي استوقد ناراً ) .
فقالت طائفة : هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق ، فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت ، وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور( {[291]} ) .
وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : «إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله ، فإذا مات صار إلى العذاب الأليم ، فذلك بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات » .
وقالت فرقة : إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها .
وقالت فرقة : إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في منزلة بما أظهروه ، فلما فضحهم الله وأعلم بنفاقهم سقطت المنزلة ، فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها .
وقالت فرقة منهم قتادة : نطقهم ب «لا إله إلا الله » والقرآن كإضاءة النار ، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها .
قال جمهور النحاة : جواب «لما » ذهب ، ويعود الضمير من «نورهم » في هذا القول على ( الذي ) ( {[292]} ) ، ويصح شبه الآية بقول الشاعر( {[293]} ) : [ الأشهب بن رميلة ] : [ الطويل ] .
وإنّ الذي حانتْ بفلجٍ دماؤهم . . . همُ القومُ كلُّ القومِ يا أمّ خالدِ
وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد ، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف المتقدم .
وقال قوم : جواب «لما » مضمر ، وهو طفئت ، والضمير في «نورهم » على هذا للمنافقين( {[294]} ) والإخبار بهذا( {[295]} ) هو عن حال تكون في الآخرة وهو قوله تعالى : { فضرب بينهم بسور له باب }( {[296]} ) [ الحديد : 13 ] .
قال القاضي أبو محمد : هذا القول غير قوي ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو السمال «في ظلْمات » بسكون اللام ، وقرأ قوم «ظلَمات » بفتح اللام . ( {[297]} )
قال أبو الفتح : في ظلمات وكسرات ثلاثة لغات : اتباع الضم الضم والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل إلى الفتح في الثاني أو التخفيف بأن يسكن الثاني ، وكل ذلك جائز حسن ، فأما فعلة بالفتح فلا بد فيه من التثقيل إتباعاً فتقول ثمرة وثمرات .
قال القاضي أبو محمد : وذهب قوم في «ظلَمات » بفتح اللام إلى أنه جمع ظلم فهو جمع الجمع( {[298]} ) .
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً } .
أعقبت تفاصيل صفاتهم بتصوير مجموعها في صورة واحدة ، بتشبيه حالهم بهيئة محسوسة ، وهذه طريقة تشبيه التمثيل ، إلحاقاً لتلك الأحوال المعقولة بالأشياء المحسوسة ، لأن النفس إلى المحسوس أميل .
وإتماماً للبيان بجمع المتفرقات في السمع ، المطالة في اللفظ ، في صورة واحدة لأن للإجمال بعد التفصيل وقعاً من نفوس السامعين .
وتقريراً لجميع ما تقدم في الذهن بصورة تخالف ما صور سالفاً لأن تجدد الصورة عند النفس أحب من تكررها . قال في « الكشاف » : « ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المِثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كالمشاهد » .
واستدلالاً على ما يتضمنه مجموع تلك الصفات من سوء الحالة وخيبة السعي وفساد العاقبة ، فمن فوائد التشبيه قصد تفظيع المشبه .
وتقريباً لما في أحوالهم في الدين من التضاد والتخالف بين ظاهر جميل وباطن قبيح بصفة حال عجيبة من أحوال العالم فإن من فائدة التشبيه إظهار إمكان المشبه ، وتنظير غرائبه بمثلها في المشبه به . قال في « الكشاف » : « ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتابه المبين أمثاله وفشت في كلام رسول صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء قال تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } [ العنكبوت : 43 ] ا هـ .
والتمثيل منزع جليل بديع من منازع البلغاء لا يبلغ إلى محاسنه غير خاصتهم . وهو هنا من قبيل التشبيه لا من الاستعارة لأن فيه ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي لفظ مثل . فجملة : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } واقعة من الجمل الماضية موقع البيان والتقرير والفذلكة ، فكان بينها وبين ما قبلها كمال الاتصال فلذلك فصلت ولم تعطف ، والحالة التي وقع تمثيلها سيجىء بيانها في آخر تفسير الآية .
وأصل المثل بفتحتين هو النظير والمشابه ، ويقال أيضاً مثل بكسر الميم وسكون الثاء ، ويقال : مثيل كما يقال : شَبَه وشبْهٌ وشبيه ، وبدَل وبِدْل ، وبديل ، ولا رابع لهذه الكلمات في مجيء فَعَل وفِعْل وفَعِيل بمعنى واحد .
وقد اختص لفظ المَثَل ( بفتحتين ) بإطلاقه على الحال الغريبة الشأن لأنها بحيث تمثل للناس وتوضح وتشبه سواء شبهت كما هنا ، أم لم تشبه كما في قوله تعالى : { مثل الجنة } [ الرعد : 35 ] .
وبإطلاقه على قول يصدر في حال غريبة فيحفظ ويشيع بين الناس لبلاغة وإبداع فيه ، فلا يزال الناس يذكرون الحال التي قيل فيها ذلك القول تبعاً لذكره وكم من حالة عجيبة حدثت ونسيت لأنها لم يصدر فيها من قول بليغ ما يجعلها مذكورة تبعاً لذكره فيسمى مثلاً ، وأمثال العرب باب من أبواب بلاغتهم وقد خصت بالتأليف ويعرفونه بأنه قول شبه مضربه بمورده وسأذكره قريباً .
فالظاهر أن إطلاق المثل على القول البديع السائر بين الناس الصادر من قائله في حالة عجيبة هو إطلاق مرتب على إطلاق اسم المثل على الحال العجيبة ، وأنهم لا يكادون يضربون مثلاً ولا يرونه أهلاً للتسيير وجديراً بالتداول إلا قولاً فيه بلاغة وخصوصية في فصاحة لفظ وإيجازه ووفرة معنى ، فالمثل قول عزيز غريب ليس من متعارف الأقوال العامة بل هو من أقوال فحول البلاغة فلذلك وصف بالغرابة{[86]} أي العزة مثل قولهم : « الصيف ضيعتِ اللبن » وقولهم : « لا يطاع لقصير أمر » وستعرف وجه ذلك .
ولما شاع إطلاق لفظ المثل ( بالتحريك ) على الحالة العجيبة الشأن جعل البلغاء إذا أرادوا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة أعني وصفين منتزعين من متعدد أتوا في جانب المشبه والمشبه به معاً أو في جانب أحدهما بلفظ المثل وأدخلوا الكاف ونحوها من حروف التشبيه على المشبه به منهما ولا يطلقون ذلك على التشبيه البسيط فلا يقولون مثل فلان كمثل الأسد وقلما شبهوا حالاً مركبة بحال مركبة مقتصرين على الكاف كقوله تعالى : { إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه } [ الرعد : 14 ] بل يذكرون لفظ المثل في الجانبين غالباً نحو الآية هنا ، وربما ذكروا لفظ المثل في أحد الجانبين كقوله : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } [ يونس : 24 ] الآية وذلك ليتبادر للسامع أن المقصود تشبيه حالة بحالة لا ذات بذات ولا حالة بذات فصار لفظ المثل في تشبيه الهيئة منسياً من أصل وضعه ومستعملاً في معنى الحالة فلذلك لا يستغنون عن الإتيان بحرف التشبيه حتى مع وجود لفظ المثل فصارت الكاف في قوله تعالى : { كمثل } دالة على التشبيه وليست زائدة كما زعمه الرضى في « شرح الحاجبية » ، وتبعه عبد الحكيم عند قوله تعالى : { أو كصيب } [ البقرة : 19 ] وقوفاً مع أصل الوضع وإغضاء عن الاستعمال ألا ترى كيف استغنى عن إعادة لفظ المثل عند العطف في قوله تعالى : { أو كصيب } ولم يستغن عن الكاف .
ومن أجل إطلاق لفظ المثل اقتبس علماء البيان مصطلحهم في تسمية التشبيه المركب بتشبيه التمثيل وتسمية استعمال المركب الدال على هيئة منتزعة من متعدد في غير ما وضع له مجموعه بعلاقة المشابهة استعارة تمثيلية وقد تقدم الإلمام بشيء منه عند قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .
وإنني تتبعت كلامهم فوجدت التشبيه التمثيلي يعتريه ما يعتري التشبيه المفرد فيجىء في أربعة أقسام :
الأول : ما صرح فيه بأداة التشبيه أو حذفت منه على طريقة التشبيه البليغ كما في هذه الآية وقوله : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] إذا قدرنا أولئك كالذين اشتروا كما قدمنا .
الثاني : ما كان على طريقة الاستعارة التمثيلية المصرحة بأن يذكروا اللفظ الدال بالمطابقة على الهيئة المشبه بها ويحذف ما يدل على الهيئة المشبهة نحو المثال المشهور وهو قولهم : إني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى .
الثالث : تمثيلية مكنية وهي أن تشبه هيئة بهيئة ولا يذكر اللفظ الدال على الهيئة المشبه بها بل يرمز إليه بما هو لازم مشتهر من لوازمه ، وقد كنت أعد مثالاً لهذا النوع خصوص الأمثال المعروفة بهذا اللقب نحو الصيف ضيعت اللبن وبيدي لا بيد عمرو ونحوها من الأمثال فإنها ألفاظ قيلت عند أحوال واشتهرت وسارت حتى صار ذكرها ينبىء بتلك الأحوال التي قيلت عندها وإن لم يذكر اللفظ الدال على الحالة ، وموجب شهرتها سيأتي . ثم لم يحضرني مثال للمكنية التمثيلية من غير باب الأمثال حتى كان يوم حضرت فيه جنازة ، فلما دفنوا الميت وفرغوا من مواراته التراب ضج أناس بقولهم : « اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة » فقلت إن الذين سنوا هذه المقالة في مثل هذه الحالة ما أرادوا إلا تنظير هيئة حفرهم للميت بهيئة الذين كانوا يحفرون الخندق مع النبيء صلى الله عليه وسلم إذ كانوا يكررون هذه المقالة كما ورد في كتب السنة قصداً من هذا التنظير أن يكون حفرهم ذلك شبيهاً بحفر الخندق في غزوة الأحزاب بجامع رجاء القبول عند الله تعالى فلم يذكروا ما يدل على الشبه به ولكنهم طووه ورمزوا إليه بما هو من لوازمه التي عرف بها وهو قول النبيء تلك المقالة ثم ظفرت بقول أحمد بن عبد ربه الأندلسي :
وقُلْ لمن لامَ في التصابي *** خَلِّ قليلاً عن الطريق
فرأيته من باب التمثيلية المكنية فإنه حذف المشبه به وهو حال المتعرض لسائر في طريقه يسده عليه ويمنعه المرور به وأتى بشيء من لوازم هذه الحالة وهو قول السائر للمتعرض : خل عن الطريق .
رابعها : تمثيلية تبعية كقول أبي عطاء السندي :
ذكرتكِ والخطيُّ يخطُر بيننا *** وقد نَهِلت منى المُثَقّفَةُ السُّمْر
فأثبت النهل للرماح تشبيهاً لها بحالة الناهل فيما تصيبه من دماء الجرحى المرة بعد الأخرى كأنها لا يرويها ما تصيبه أولاً ثم أتى بنَهلتْ على وجه التبعية ، ومن هذا القسم عند التفتزاني الاستعارة في { على } من قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] وقد تقدم الكلام عليه هناك .
فأما المثل الذي هو قول شبه مضربه بمورده ، وهو الذي وعدت بذكره آنفاً فمعنى تشبيه مضربه بمورده أن تحصل حالة لها شبه بالحالة التي صدر فيها ذلك القول فيستحضر المتكلم تلك الحالة التي صدر فيها القول ويشبه بها الحالة التي عرضت وينطق بالقول الذي كان صدر في أثناء الحالة المشبه بها ليذكِّر السامع بتلك الحالة ، وبأن حالة اليوم شبيهة بها ويجعل علامة ذِكر ذلك القول الذي قيل في تلك الحالة وإذا حققت التأمل وجدت هذا العمل من قبيل الاستعارة التمثيلية المكنية لأجل كون تلك الألفاظ المسماة بالأمثال قد سارت ونقلت بين البلغاء في تلك الحوادث فكانت من لوازم الحالات المشبه بها لا محالة لمقارنتها لها في أذهان الناس فهي لوازم عرفية لها بين أهل الأدب فصارت من روادف أحوالها وكان ذكر تلك الأمثال رمزاً إلى اعتبار الحالات التي قيلت فيها ، ومن أجل ذلك امتنع تغييرها عن ألفاظها الواردة بها لأنها إذا غيرت لم تبق على ألفاظها المحفوظة المعهودة فيزول اقترانها في الأذهان بصور الحوادث التي قيلت فيها فلم يعد ذكرها رمزاً للحال المشبه به التي هي من روادفها لا محالة وفي هذا ما يغني عن تطلب الوجه في احتراس العرب من تغيير الأمثال حتى تسلموا من الحيرة في الحكم بين صاحب « الكشاف » وصاحب « المفتاح » إذ جعل صاحب « الكشاف » سبب منع الأمثال من التغيير ما فيها من الغرابة فقال : « ولم يضربوا مثلاً ولا رأوه أهلاً للتسيير ، ولا جديراً بالتداول إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه ومن ثم حوفظ عليه وحمي من التغيير » فتردد شراحه في مراده من الغرابة ، وقال الطيبي الغرابة غموض الكلام وندرته وذلك إما أن يكون بحسب المعنى وإما أن يكون بحسب اللفظ ، أما الأول فكأن يرى عليه أثر التناقض وما هو بتناقض نحو قول الحكم بن عبد يغوث : رب رمية من غير رام ، أي رب رمية مصيبة من غير رام أي عارف وقوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] إذ جعل القتل حياة .
وأما الثاني بأن يكون فيه ألفاظ غريبة لا تستعملها العامة نحو قول الحباب بن المنذر : « أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب »{[87]} أو فيه حذف وإضمار نحو رمية من غير رام . أو فيه مشاكلة نحو : « كما تدين تدان » . أراد كما تفعل تجازى . وفسر بعضهم الغرابة بالبلاغة والفصاحة حتى صارت عجيبة وعندي أنه ما أراد بالغرابة إلا أن يكون قولاً بديعاً خاصياً إذ الغريب مقابل المألوف والغرابة عدم الإلف يريد عدم الإلف به في رفعة الشأن . وأما صاحب « المفتاح » فجعل منعها من التغيير لورودها على سبيل الاستعارة فقال : ثم إن التشبيه التمثيلي متى شاع واشتهر استعماله على سبيل الاستعارة صار يطلق عليه المثل لا غير ا هـ . وإلى طريقته مال التفتزاني والسيد . وقد علمت سرها وشرحها فيما بيناه . ولورود الأمثال على سبيل الاستعارة لا تغير عن لفظها الذي ورد في الأصل تذكيراً وتأنيثاً وغيرهما . فمعنى قولهم في تعريف المثل بهذا الإطلاق : « قول شبه مضربه بمورده » أن مضربه هو الحالة المشبهة سميت مضرباً لأنها بمنزلة مكان ضرب ذلك القول أي وضعه أي النطق به يقال ضرب المثل أي شبه ومثل قال تعالى : { أن يضرب مثلاً ما } [ البقرة : 26 ] وأما مورده فهو الحالة المشبه بها وهي التي ورد ذلك القول أي صدر عند حدوثها ، سميت مورداً لأنها بمنزلة مكان الماء الذي يرده المستقون ، ويقال الأمثال السائرة أي الفاشية التي يتناقلها الناس ويتداولونها في مختلف القبائل والبلدان فكأنها تسير من بلد إلى بلد .
و { الذي استوقد ناراً } مفرد مراد به مشبه واحد لأن مستوقد النار واحد ولا معنى لاجتماع جماعة على استيقاد نار ولا يريبك كون الحالة المشبه حالة جماعة المنافقين ، كأن تشبيه الهيئة بالهيئة إنما يتعلق بتصوير الهيئة المشبهة بها لا بكونها على وزن الهيئة المشبهة فإن المراد تشبيه حال المنافقين في ظهور أثر الإيمان ونوره مع تعقبه بالضلالة ودوامه ، بحال من استوقد ناراً .
واستوقد بمعنى أوقد فالسين والتاء فيه للتأكيد كما هما في قوله تعالى : { فاستجاب لهم ربهم } [ آل عمران : 195 ] وقولهم استبان الأمر وهذا كقول بعض بني بولان من طي في « الحماسة » :
نَسْتَوْقِد النبل بالحَضيض ونَصْ *** طَادُ نُفوسا بُنَتْ علَى الكرم
أراد وقوداً يقع عند الرمي بشدة . وكذلك في الآية لإيراد تمثيل حال المنافقين في إظهار الإيمان بحال طالب الوقود بل هو حال الموقد وقوله :
{ فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } .
مفرع على { استوقد } . و { لما } حرف يدل على وقوع شيء عند وقوع غيره فوقوع جوابها مقارن لوقوع شرطها وذلك معنى قولهم حرف وجود لوجود أي حرف يدل على وجود الجواب لوجود شرطها أي أن يكون جوابها كالمعلول لوجود شرطها سواء كان من ترتب المعلول على العلة أو كان ترتب المسبب العرفي على السبب أم كان ترتب المقارن على مقارنه المهيأ والمقارن الحاصل على سبيل المصادفة وكلها استعمالات واردة في كلام العرب وفي القرآن .
مثال ترتب المعلول على العلة لما تعفنت أخلاطه حُمَّ ، والمسبب على السبب ، { ولما جاءت رسلنا لوطاً شيء بهم وضاق بهم ذرعاً } [ هود : 77 ] ، وقولُ عمرو بن معد يكرب :
لما رأيتُ نساءنـا *** يفحصن بالمعزاء شدا
نازَلْتُ كبشهم ولم *** أر من نزال الكبش بدا
ومثال المقارن المهيأ قول امرىء القيس :
فلما أَجزْنا ساحة الحي وانتحى *** بنا بطن خَبت ذي حقاف عقنقل
هَصَرْتُ بفوْدَيْ رأسها فتمايلت *** عليّ هضيم الكشح ريَّا المخلخَل
ومثال المقارن الحاصل اتفاقاً { ولما جاءت رسلُنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا . . . } [ العنكبوت : 31 ] وقوله : { ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه } [ يوسف : 69 ] فمن ظن أن لمّا تؤذن بالسببية اغتراراً بقولهم وجود لوجود حملاً لِلاَّم في عبارتهم على التعليل فقد ارتكب شططاً ولم يجد من كلام الأئمة فرطاً .
و { أضاء } يجىء متعدياً وهو الأصل لأن مجرده ضَاء فتكون حينئذٍ همزته للتعدية كقول أبي الطمحان القيني :
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم *** دُجى الليل حتى ثقب الجزع ثاقبه
ويجىء قاصراً بمعنى ضاء فهمزته للصيرورة أي صار ذا ضوء فيساوي ضاء كقول امرىء القيس يصف البرق :
يُضِىء سنَاه أو مصابيح راهب *** أمال السليط بالذبال المفتل
والآية تحتملهما أي فلما أضاءت النار الجهات التي حوله وهو معنى ارتفاع شعاعها وسطوع لهبها ، فيكون ما حوله موصولاً مفعولاً لأضاءت وهو المتبادر ، وتحتمل أن تكون من أضاء القاصر أي أضاءت النار أي اشتعلت وكثر ضوءها في نفسها ، ويكون ما حوله على هذا ظرفاً للنار أي حصل ضوء النار حولها غير بعيد عنها .
و { حوله } ظرف للمكان القريب ولا يلزم أن يراد به الإحاطة فحوله هنا بمعنى لديه ومن توهم أن { ما حوله } يقتضي ذلك وقع في مشكلات لم يجد منها مخلصاً إلا بعناء .
وجمع الضمير في قوله : { بنورهم } مع كونه بلصق الضمير المفرد في قوله : { ما حوله } مراعاة للحال المشبهة وهي حال المنافقين لا للحال المشبه بها ؛ وهي حال المستوقد الواحد على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي وهو انطماس نور الإيمان منهم ، فهو عائد إلى المنافقين لا إلى { الذي } ، قريباً من رد العجز على الصدر فأشبه تجريد الاستعارة المفردة وهو من التفنين كقول طرفة :
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن *** مظاهرُ سِمطَيْ لؤلؤ وزبرجد
وهذا رجوع بديع ، وقريب منه الرجوع الواقع بطريق الاعتراض في قوله الآتي : { والله محيط بالكافرين } [ البقرة : 19 ] وحسنه أن التمثيل جمع بين ذكر المشبه وذكر المشبه به فالمتكلم بالخيار في مراعاة كليهما لأن الوصف لهما فيكون ذلك البعض نوعاً واحداً في المشبه والمشبه به ، فما ثبت للمشبه به يلاحظ كالثابت للمشبه . وهذا يقتضي أن تكون جملة { ذهب الله بنورهم } جواب { لمّا } فيكون جمع ضمائر بنورهم وتركهم إخراجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر إذ مقتضى الظاهر أن يقول ذهب الله بنوره وتركه ، ولذلك اختير هنا لفظ النور عوضاً عن النار المبتدأ به ، للتنبيه على الانتقال من التمثيل إلى الحقيقة ليدل على أن الله أذهب نور الإيمان من قلوب المنافقين ، فهذا إيجاز بديع كأنه قيل فلما أضاءت ذهب الله بناره فكذلك ذهب الله بنورهم وهو أسلوب لا عهد للعرب بمثله فهو من أساليب الإعجاز . وقريب منه قوله تعالى : { بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } [ الزخرف : 22 24 ] فقوله : { أرسلتم } حكاية لخطاب أقوام الرسل في جواب سؤال محمد صلى الله عليه وسلم قومه بقوله : { أوَلو جئتكم } وبهذا يكون ما في هذه الآية موافقاً لما في الآية بعدها من قوله تعالى : { يجعلون أصابعهم في آذانهم } إذ يتعين رجوعه لبعض المشبه به دون المشبه . وجوز صاحب « الكشاف » أن يكون قوله : { ذهب الله بنورهم } استئنافاً ويكون التمثيل قد انتهى عند قوله تعالى { فلما أضاءت ما حوله } ويكون جواب { لما } محذوفاً دلت عليه الجملة المستأنفة وهو قريب مما ذكرته إلا أن الاعتبار مختلف .
ومعنى { ذهب الله بنورهم } : أطفأ نارهم فعبر بالنور لأنه المقصود من الاستيقاد ، وأسند إذهابه إلى الله تعالى لأنه حصل بلا سبب من ريح أو مطر أو إطفاء مطفىء ، والعرب والناس يسندون الأمر الذي لم يتضح سببه لاسم الله تعالى كما تقدم عند قوله : { ويمدهم في طغيانهم } [ البقرة : 15 ] .
و { ذهب } المعدى بالباء أبلغ من أذهب المعدى بالهمزة وهاته المبالغة في التعدية بالباء نشأت من أصل الوضع لأن أصل ذهب به أن يدل على أنهما ذهبا متلازمين فهو أشد في تحقيق ذهاب المصاحب كقوله : { فلما ذهبوا به } [ يوسف : 15 ] وأذهبه جعله ذاهباً بأمره أو إرساله فلما كان الذي يريد إذهاب شخص إذهاباً لا شك فيه يتولى حراسة ذلك بنفسه حتى يوقن بحصول امتثال أمره صار ذهب به مفيداً معنى أذهبه ، ثم تنوسي ذلك بكثرة الاستعمال فقالوا ذهب به ونحوه ولو لم يصاحبه في ذهابه كقوله : { يأتي بالشمس من المشرق } [ البقرة : 258 ] وقوله : { وجاء بكم من البدو } [ يوسف : 100 ] ثم جعلت الهمزة لمجرد التعدية في الاستعمال فيقولون : ذهب القمار بمال فلان ولا يريدون أنه ذهب معه ، ولكنهم تحفظوا ألا يستعملوا ذلك إلا في مقام تأكيد الإذهاب فبقيت المبالغة فيه . وضمير المفرد في قوله { وما حوله } مراعاة للحال المشبهة .
واختيار لفظ النور في قوله : { ذهب الله بنورهم } دون الضوء ودون النار لأن لفظ النور أنسب ؛ لأن الذي يشبه النار من الحالة المشبهة هو مظاهر الإسلام التي يظهرونها وقد شاع التعبير عن الإسلام بالنور في القرآن فصار اختيار لفظ النور هنا بمنزلة تجريد الاستعارة لأنه أنسب بالحال المشبهة ، وعبّر عما يقابله في الحال المشبه بها بلفظ يصلح لهما أو هو بالمشبه أنسب في اصطلاح المتكلم كما قدمنا الإشارة إليه في وجه جمع الضمير في قوله : { بنورهم }
{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ } .
هذه الجملة تتضمن تقريراً لمضمون { ذهب الله بنورهم } لأن من ذهب نوره بقي في ظلمة لا يبصر ، والقصد منه زيادة إيضاح الحالة التي صاروا إليها فإن للدلالة الصريحة من الارتسام في ذهن السامع ما ليس للدلالة الضمنية فإن قوله { ذهب الله بنورهم } يفيد أنهم لما استوقدوا ناراً فانطفأت انعدمت الفائدة وخابت المساعي ولكن قد يذهل السامع عما صاروا إليه عند هاته الحالة فيكون قوله بعد ذلك : { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } تذكيراً بذلك وتنبيهاً إليه ، فإنهم لا يقصدون من البيان إلا شدة تصوير المعاني ولذلك يطنبون ويشبهون ويمثلون ويصفون المعرفة ويأتون بالحال ويعددون الأخبار والصفات فهذا إطناب بديع كما في قول طرفة :
ندامَايَ بيضٌ كالنجوم وقَينة *** تَرُوح إلينا بَيْن بُرد ومِجْسَد
فإن قوله تروح إلينا الخ لا يفيد أكثر من تصوير حالة القينة وتحسين منادمتها ، وتفيد هذه الجملة أيضاً أنهم لم يعودوا إلى الاستنارة من بعد ، على ما في قوله { وتركهم } من إفادة تحقيرهم ، وما في جمع { ظلمات } من إفادة شدة الظلمة وهي فائدة زائدة على ما استفيد ضمناً من جملة { ذهب الله بنورهم } وما يقتضيه جمع { ظلمات } من تقدير تشبيهات ثلاثة لضلالات ثلاث من ضلالاتهم كما سيأتي .
وبهذا الاعتبار الزائد على تقرير مضمون الجملة قبلها عطفت على الجملة ولم تفصل .
وحقيقة الترك مفارقة أحد شيئاً كان مقارناً له في موضع وإبقاؤه في ذلك الموضع . وكثيراً ما يذكرون الحال التي ترك الفاعل المفعول عليها ، وفي هذا الاستعمال يكثر أن يكون مجازاً عن معنى صَيَّر أو جَعَل . قال النابغة :
فلا تتركّني بالوعيد كأنني *** إلى الناس مطليٌّ به القارُ أجرب
أي لا تصيرني بهذه المشابهة ، وقول عنترة :
جادت عليه كل عينٍ ثرةٍ *** فترَكن كل قرارة كالدرهم
يريد صيرن ، والأكثر أن يكنى به في هذا الاستعمال عن الزهادة في مفعوله كما في بيت النابغة ، أو عن تحقيره كما في هذه الآية .
والفرق بين ما يعتبر فيه معنى صيَّر حتى يكون منصوبه الثاني مفعولاً ، وما يعتبر المنصوب الثاني معه حالاً ، أنه إن كان القصد إلى الإخبار بالتخلية والتنحي عنه فالمنصوب الثاني حال وإن كان القصد أولاً إلى ذلك المنصوب الثاني وهو محل الفائدة فالمنصوب الثاني مفعول وهو في معنى الخبر فلا يحتمل واحد منهما غير ذلك معنى وإن احتمله لفظاً .
وجمع { ظلمات } لقصد بيان شدة الظلمة كقوله تعالى : { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } [ الأنعام : 63 ] وقول النبيء صلى الله عليه وسلم « الظلم ظلمات يوم القيامة » فإن الكثرة لما كانت في العرف سبب القوة أطلقوها على مطلق القوة وإن لم يكن تعدد ولا كثرة مثل لفظ كثير كما يأتي عند قوله تعالى : { وادعوا ثبوراً كثيراً } في سورة الفرقان ( 14 ) ، ومنه ذكر ضمير الجمع للتعظيم ، للواحد ، وضمير المتكلم ومعه غيره للتعظيم ، وصيغة الجمع من ذلك القبيل ، قيل لم يرد في القرآن ذكر الظلمة مفرداً ، ولعل لفظ ظلمات أشهر إطلاقاً في فصيح الكلام وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } في سورة الأنعام ( 1 ) بخلاف قوله تعالى : { في ظلمات ثلاث } [ الزمر : 6 ] فإن التعدد مقصود بقرينة وصفه بثلاث . ولكن بلاغة القرآن وكلام الرسول عليه السلام لا تسمح باستعمال جمع غير مراد به فائدة زائدة على لفظه المفرد ، ويتعين في هذه الآية أن جمع ( ظلمات ) أشير به إلى أحوال من أحوال المنافقين كل حالة منها تصلح لأن تشبه بالظلمة وتلك هي حالة الكفر ، وحالة الكذب ، وحالة الاستهزاء بالمؤمنين ، وما يتبع تلك الأحوال من آثار النفاق .
وهذا التمثيل تمثيل لحال المنافقين في ترددهم بين مظاهر الإيمان وبواطن الكفر فوجه الشبه هو ظهور أمر نافع ثم انعدامُه قبل الانتفاع به ، فإن في إظهارهم الإسلام مع المؤمنين صورة من حسن الإيمان وبشاشته لأن للإسلام نوراً وبركة ثم لا يلبثون أن يرجعوا عند خلوهم بشياطينهم فيزول عنهم ذلك ويرجعوا في ظلمة الكفر أشد مما كانوا عليه لأنهم كانوا في كفر فصاروا في كفر وكَذب وما يتفرع عن النفاق من المذام ، فإن الذي يستوقد النار في الظلام يتطلب رؤية الأشياء فإذا انطفأت النار صار أشد حيرة منه في أول الأمر لأن ضوء النار قد عوَّد بصره فيظهر أثر الظلمة في المرة الثانية أقوى ويرسخ الكفر فيهم .
وبهذا تظهر نكتة البيان بجملة : { لا يبصرون } لتصوير حال من انطفأَ نورُه بعد أن استضاء به .
ومفعول { لا يبصرون } محذوف لقصد عموم نفي المبصرات فتنزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدَّر له مفعول كأنه قيل لا إحساس بصر لهم ، كقول البحتري :
شَجْوُ حساده وغيظُ عداه *** أن يَرى مبصرٌ ويسمَعَ واعٍ
وقد أجمل وجه الشبه في تشبيه حال المنافقين اعتماداً على فطنة السامع لأنه يَمْخَضه من مجموع ما تقدم من شرح حالهم ابتداء من قوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 ] الخ ومما يتضمنه المثَلان من الإشارة إلى وجوه المشابهة بين أجزاء أحوالهم وأجزاء الحالة المشبه بها ، فإن إظهارهم الإيمان بقولهم : { آمنا بالله } وقولهم : { إنما نحن مصلحون } [ البقرة : 11 ] وقولهم عند لقاء المؤمنين : { آمنا } [ البقرة : 14 ] أحوالٌ ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبيء صلى الله عليه وسلم وحينما يتظاهرون بالإسلام والصلاةِ والصدقةِ مع المسلمين ويصدر منهم طيِّب القول وقويم السلوك وتشرق عليهم الأنوار النبوية فيكاد نور الإيمان يخترق إلى نفوسهم ولكن سرعان ما يعقب تلك الحالة الطيبةَ حالةٌ تضادها عند انفضاضهم عن تلك المجالس الزكية وخلوصهم إلى بطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم فتعاودهم الأحوال الذميمة من مزاولة الكفر وخداع المؤمنين والحقد عليهم والاستهزاء بهم ووصفهم بالسفه ، مُثِّلَ ذلك التظاهر وذلك الانقلاب بحال الذي استوقد ناراً ثم ذهب عنه نورها .
ومن بدائع هذا التمثيل أنه مع ما فيه من تركيب الهيأة المشبه بها ومقابلتها للهيأة المركبة من حالهم هو قابل لتحليله بتشبيهاتٍ مفردة لكل جزء من هيأة أحوالهم بجزء مفرد من الهيأة المشبه بها فشبه استماعهم القرآن باستيقاد النار ، ويتضمن تشبيه القرآن في إرشاد الناس إلى الخير والحق بالنار في إضاءة المسالك للسالكين ، وشبه رجوعهم إلى كفرهم بذهاب نور النار ، وشبه كفرهم بالظلمات ، ويشبهون بقوم انقطع إبصارهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ضرب الله للمنافقين مثلا، فقال عز وجل: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله} طفئت ناره، يقول الله عز وجل: مثل المنافق إذا تكلم بالإيمان كان له نور بمنزلة المستوقد نارا يمشي بضوئها ما دامت ناره تتقد، فإذا ترك الإيمان كان في ظلمة كظلمة من طفئت ناره، فقام لا يهتدي ولا يبصر، فذلك قوله سبحانه: {ذهب الله بنورهم}، يعني بإيمانهم، نظيرها في سورة النور: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} (النور: 40)، يعني به الإيمان... {وتركهم في ظلمات}، يعني الشرك، {لا يبصرون} الهدى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
مثل استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به قولاً وهم به مكذّبون اعتقادا، كمثل استضاءة الموقد نارا.
عن ابن عباس، قال: ضرب الله للمنافقين مثلاً فقال:"مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ" أي يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق...
عن ابن عباس: "مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا "إلى آخر الآية. هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه وتركهم في ظلمات، يقول في عذاب... عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ": زعم أن أناسا دخلوا في الإسلام مَقْدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت له ما حوله من قذى أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشرّ. فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر.
وأما النور فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت الظلمة نفاقهم.
وقوله: "ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ" قال: أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به.
وأما الظلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم، يتكلمون به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك...
عن قتادة قوله: "مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلّمَا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ" وإن المنافق تكلم بلا إلَه إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين، وغازى بها المسلمين، ووارث بها المسلمين، وحقن بها دمه وماله. فلما كان عند الموت سُلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في علمه...
عن مجاهد في قول الله: "مَثَلَهُمُ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمّا أَضَاءَتْ ما حَوْلَهُ" قال: أما إضاءة النار: فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى، وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكافرين والضلالة...
عن الربيع بن أنس، قال: ضرب مثل أهل النفاق فقال: "مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا" قال: إنما ضوء النار ونورها ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، كذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة...
وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة والضحاك، وما رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وذلك أن الله جل ثناؤه إنما ضرب هذا المثل للمنافقين الذين وصف صفتهم وقصّ قصصهم من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله: "ومِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَا باللّهِ وبَاليَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ" لا المعلنين بالكفر المجاهرين بالشرك... فإذا كان الأمر على ما وصفنا في ذلك، فأولى تأويلات الآية بالآية: مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به، وقولهم له وللمؤمنين: آمَنا باللّهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ، حتى حُكم لهم بذلك في عاجل الدنيا بحكم المسلمين في حقن الدماء والأموال والأمن على الذرية من السباء، وفي المناكحة والموارثة، كمثل استضاءة الموقد النار بالنار، حتى إذا ارتفق بضيائها، وأبصر ما حوله مستضيئا بنوره من الظلمة، خمدت النار وانطفأت، فذهب نوره، وعاد المستضيء به في ظلمة وحيرة. وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئا بضوء القول الذي دافع عنه في حياته القتل والسباء مع استبطانه ما كان مستوجبا به القتل وسلب المال لو أظهره بلسانه، تُخيّل إليه بذلك نفسه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادع، حتى سوّلت له نفسه، إذ ورد على ربه في الآخرة، أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذ نعتهم ثم أخبرهم عند ورودهم عليه: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُمْ على شَيْءٍ ألاَ إِنّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ} ظنا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الاَخرة في مثل الذي كان به نجاتهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا من الكذب والإفك، وأن خداعهم نافعهم هنالك نفعه إياهم في الدنيا. حتى عاينوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال، واستهزاء بأنفسهم وخداع، إذ أطفأ الله نورهم يوم القيامة فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم، فقيل لهم: "ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا" واصلوا سعيرا. فذلك حين ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، كما انطفأت نار المستوقد النار بعد إضاءتها له، فبقي في ظلمته حيران تائها يقول الله جل ثناؤه: "يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ والمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ يُنادونَهُمْ ألَم نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنّكُمْ فَتَنْتُمْ أنْفُسَكُمْ وَتَرَبّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرّتْكُمُ الأمانِيّ حتى جاءَ أمْرُ اللّهِ وَغَرَكُمْ باللّهِ الغَرُورُ فاليَوْمَ لا يُؤْخَذُ منْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مأْوَاكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ المَصِير" [الحديد،13-15].
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
... كأنَّ ما حصلوا فيه من الظلمة بعد الضياء أسوأ حالاً، لأن من طُفِئَت عنه النار حتى صار في ظلمة، فهو أقل بصراً ممن لم يزل في الظلمة، وهذا مَثَل ضربه الله تعالى للمنافقين.
وفيما كانوا فيه من الضياء، وجعلوا فيه من الظلمة قولان:
أحدهما: أن ضياءهم دخولهم في الإسلام بعد كفرهم، والظلمة خروجهم منه بنفاقهم.
والثاني: أن الضياء يعود للمنافقين بالدخول في جملة المسلمين، والظلمة زوالُهُ عنهم في الآخرة، وهذا قول ابنِ عباسٍ وقتادةَ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما جاء بحقيقة صفتهم، عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان. ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد. وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسورة الجامح الأبيّ، ولأمر مّا أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء. قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون} [العنكبوت: 43]. والمثل في أصل كلامهم: بمعنى المثل، وهو النظير. يقال: مثل ومثل ومثيل، كشبه وشبه وشبيه. ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده: مثل. ولم يضربوا مثلاً، ولا رأوه أهلا للتسيير، ولا جديراً بالتداول والقبول، إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه. ومن ثمّ حوفظ عليه وحمى من التغيير.
فإن قلت: ما معنى مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً، وما مثل المنافقين ومثل الذي استوقد ناراً حتى شبه أحد المثلين بصاحبه؟ قلت: قد استعير المثل استعارة الأسد للمقدام، للحال أو الصفة أو القصة، إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً. وكذلك قوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [الرعد: 35] أي وفيما قصصنا عليك من العجائب: قصة الجنة العجيبة. ثم أخذ في بيان عجائبها. {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60]: أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة. {مَثَلُهُمْ في التوراة} [الفتح: 29] أي صفتهم وشأنهم المتعجب منه. ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا: فلان مثلة في الخير والشر، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن. فإن قلت: فما معنى إسناد الفعل إلى الله تعالى في قوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ}؟ قلت: إذا طفئت النار بسبب سماوي ريح أو مطر، فقد أطفأها الله تعالى وذهب بنور المستوقد. ووجه آخر، وهو أن يكون المستوقد في هذا الوجه مستوقد نار لا يرضاها الله. ثم إما أن تكون ناراً مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام، وتلك النار متقاصرة مدّة اشتعالها قليلة البقاء. ألا ترى إلى قوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} [المائدة: 64]، وإما ناراً حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي، ويتهدوا بها في طرق العبث، فأطفأها الله وخيب أمانيهم.
فإن قلت: هلا قيل ذهب الله بضوئهم؟ لقوله: {فَلَمَّا أَضَاءتْ}؟ قلت: ذكر النور أبلغ؛ لأنّ الضوء فيه دلالة على الزيادة. فلو قيل: ذهب الله بضوئهم، لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً، والغرض إزالة النور عنهم رأساً وطمسه أصلاً. ألا ترى كيف ذكر عقيبه {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات} والظلمة عبارة عن عدم النور وانطماسه، وكيف جمعها، وكيف نكرها، وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة مبهمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله: {لاَّ يُبْصِرُونَ}.
فإن قلت: فلم وصفت بالإضاءة؟ قلت: هذا على مذهب قولهم: للباطل صولة ثم يضمحل. ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت، ونار العرفج مثل لنزوة كل طماح. والفرق بين أذهبه وذهب به، أن معنى أذهبه: أزاله وجعله ذاهباً. ويقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه. وذهب السلطان بماله: أخذه (فلما ذهبوا به)، {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91]. ومنه: ذهب به الخيلاء. والمعنى: أخذ الله نورهم وأمسكه، {وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ} [فاطر: 2] فهو أبلغ من الإذهاب. وقرأ اليماني: أذهب الله نورهم.
وترك: بمعنى طرح وخلى، إذا علق بواحد، كقولهم: تركه ترك ظبي ظله. فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير، فيجري مجرى أفعال القلوب، ومنه قوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات} أصله: هم في ظلمات.
والظلمة عدم النور... واشتقاقها من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا: أي ما منعك وشغلك، لأنها تسدّ البصر وتمنع الرؤية...
فإن قلت: وأين الإضاءة في حال المنافق؟ وهل هو أبداً إلا حائر خابط في ظلماء الكفر؟ قلت: المراد ما استضاءوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله وظلمة العقاب السرمد.
ويجوز أن يشبه بذهاب الله بنور المستوقد اطلاع الله على أسرارهم وما افتضحوا به بين المؤمنين واتسموا به من سمة النفاق.
والأوجه أن يراد الطبع. لقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ}.
وفي الآية تفسير آخر: وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
وفي ضرب المثل لهم بالنار... حكم:
إحداها: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم؛ كان نور إيمانهم كالمستعار.
والثانية: أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة الحطب، فهو له كغذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة الاعتقاد ليدوم...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
قال سبحانه وتعالى: {ذهب الله بنورهم} ولم يقل: ذهب نورهم. وفيه سر بديع: وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله تعالى، فإن الله تعالى مع المؤمنين، و {إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153] و {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 168]. فذهاب الله بذلك النور انقطاع المعية التي خص بها أولياءه، فقطعها بينه وبين المنافقين فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم، فليس لهم نصيب من قوله: {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] ولا من {كلا إن معي ربي سيهدين} [الشعراء: 62]
وتأمل قوله تعالى: {أضاءت ما حوله} كيف جعل ضوءها خارجا عنه منفصلا؟ ولو اتصل ضوءها به ولابسه لم يذهب، ولكنه كان ضوءه مجاورة، لا ملابسة ومخالطة، وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية. فرجع الضوء إلى معدنه وبقيت الظلمة في معدنها، فرجع كل منهما إلى أصله اللائق به، حجة من الله قائمة. وحكمة بالغة، تعرف بها إلى أولي الألباب من عباده.
وتأمل قوله: {ذهب الله بنورهم} ولم يقل «بنارهم» ليطابق أول الآية. فإن النار فيها إشراق وإحراق، فذهب بما فيها من الإشراق -وهو النور- وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق، وهو النارية.
وتأمل كيف قال: {بنورهم} ولم يقل بضوئهم، مع قوله: {فلما أضاءت ما حوله} لأن الضوء هو زيادة في النور، فلو قال: ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط، دون الأصل. فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته. وأيضا: فإنه أبلغ في النفي عنهم، وأنهم من أهل الظلمات، الذين لا نور لهم. وأيضا: فإن الله تعالى سمى كتابه نورا، ورسوله نورا، ودينه نورا، ومن أسمائه سبحانه وتعالى «النور»، والصلاة نور، فذهابه سبحانه بنورهم: ذهاب بهذا كله. وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} كيف طابق بين هذه التجارة الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضى بها، وبدل الهدى في مقابلتها، وحصول الظلمات التي هي الضلالة والرضى بها، بدلا عن النور الذي هو الهدى والنور، فبدلوا الهدى والنور، وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة، فيا لها من تجارة ما أخسرها! وصفقة ما أشد غبنها! طريق الحق واحد:
وتأمل كيف قال الله تعالى: {ذهب الله بنورهم} فوحده، ثم قال: {وتركهم في ظلمات} فجمعها. فإن الحق واحد، وهو «صراط الله المستقيم»، الذي لا صراط يوصل إليه سواه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بالأهواء والبدع، وطرق الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، من الهدى ودين الحق، بخلاف طرق الباطل، فإنها متعددة متشعبة، ولهذا يفرد سبحانه الحق ويجمع الباطل. كقوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} [البقرة:257]، وقال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] فجمع سبيل الباطل، ووحد سبيل الحق.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أقول: المثل –بفتحتين- والمثل بالكسر والمثيل كالشبه والشبه والشبيه وزنا ومعنى في الجملة، وهو من مثل الشيء مثولا إذا انتصب بارزا فهو ماثل. ومثل الشيء – بالتحريك – صفته التي توضحه وتكشف عن حقيقته أو ما يراد بيانه من نعومته وأحواله. ويكون حقيقة ومجازا، وأبلغه: تمثيل المعاني المعقولة بالصور الحسية وعكسه ومنه الأمثال المضروبة وتسمى الأمثال السائرة، وسيأتي تحقيق معناها في تفسير {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما} ومنه ما يسميه البيانيون الاستعارة التمثيلية وهو خاص بالمجاز. والتمثيل مثل أساليب البلاغة وأشدها تأثيرا في النفس وإقناعا للعقل، قال تعالى {29: 43 وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} وما رأيت أحدا من علماء البلاغة وفاه حقه من البيان المقنع إلا إمامهم الشيخ عبد القهار الجرجاني في كتابه (أسرار البلاغة). وهاك ما كنت كتبت في تفسير هذا المثل ثم ما بعده إجمالا ثم تفصيلا، مقتبسا معانيه من دروس أستاذنا الإمام:
هذا مثل من مثلين ضربهما الله في هذه الآيات للصنف الثالث من الناس الذين قرع القرآن أبواب قلوبهم. وكان من عناية الله تعالى في بيان حاله أن قفّى على ذلك التفصيل في شر فرقه وأطوارهم بضرب المثل الذي يقصد به تجلى المعنى في أتم مجاليه، وتأثر النفوس بما أودع فيه، ناهيك بما في التنقل في الأساليب من توجيه الذهن إلى سابق القول ودعوة الفكر إلى مراجعة ما مضى منه. ولولا أن بلاء هذا الصنف عظيم، وداءه دفين، وعلاجه متعسر – لأنه متولد من الدواء الذي كان يجب أن تكون فيه الصحة ونعمة العافية – لما كان من البلاغة ولا من الحكمة، أن يعني بشأنه كل هذه العناية، كما قلنا في تزييف رأي من ذهب إلى أن الكلام في تلك الشرذمة من المنافقين في عصر التنزيل ضرب الله تعالى لهذا الصنف في مجموعه مثلين، ينبئان بانقسامه إلى فريقين، خلافا لما في أكثر التفاسير في أن المثلين لفريق واحد، وأن معناهما وموضوعهما واحد.
(الأول) من آتاهم الله دينا وهداية عمل بها سلفهم فجنوا ثمرها، وصلح حالهم بها، أيام كانوا مستقيمين على الطريقة، آخذين بإرشاد الوحي، واقفين عند حدود الشريعة، ولكنهم انحرفوا عن سنن سلفهم في الأخذ بها ظاهرا وباطنا، ولم ينظروا في حقائق ما جاءهم، بل ظنوا أن ما كان عند سلفهم من نعمة وسعادة إنما كان أمرا خصوا به، أو خيرا سيق إليهم، لظاهر قول أو عمل امتازوا به عن غيرهم ممن لم يأخذ بدينهم، وإن كان ذلك العمل لم يخالط سرائرهم، ولم تصلح به ضمائرهم، فأخذوا بتقاليد وعادات لم تدع في نفوسهم مجالا لغيرها، ولذلك لم يتفكروا قط في كونهم أحرى بالتمتع بتلك السعادة والسيادة من سلفهم، لأن حفظ الموجود، أيسر من إيجاد المفقود، بل لم يبيحوا لأنفسهم فهم الكتاب الذي اقتدى من قبلهم بما فيه من شموس العرفان، ونجوم الفرقان، لزعمهم أن فهمه لا يرتقي إليه إلا أفراد من رؤساء الدين، يؤخذ بأقوالهم ما وجدوا، وبكتبهم إذا فقدوا.
فمثل هذا الفريق من الصنف المخذول في فقده لما كان عنده من نور الهداية الدينية، وحرمانه من الاهتداء بها بالمرة، وانطماس الآثار دونها عنده – مثل من استوقد نارا الخ. والوجه في التمثيل: أن من يدعي الإيمان بكتاب نزل من عند ربه قد طلب بذلك الإيمان أن توقد له نار يهتدي بها في الشبهات، ويستضئ بها في ظلمات الريب والمشكلات، ويبصر على ضوئها ما قد يهجم عليه من مفترسة الأهواء والشهوات، فلما أضاءت ما حوله بما أودعته من الهدى والرشاد، وكاد بالنظر فيها يمشي على هداية وسداد – هجمت عليه من نفسه ظلمة التقليد الخبيث، وعصب عينيه شيطان الغرور، فذهب عنه ذلك النور، وأطبق عليه جو الضلالة بل طفئ فيه نور الفطرة، وتعطلت قوى الشعور بما بين يديه، فهم بمنزلة الأعمى الأصم الذي لا يبصر ولا يسمع.
وأما الفريق الثاني فقد ضرب الله له المثل في قوله {أو كصيب من السماء} الخ، وهو الذي بقي له بصيص من النور، فله نظرات ترمي إلى ما بين يديه من الهداية أحيانا، ولمعاني التنزيل يسطع على نفسه الفينة بعد الفينة، ويتألق في نظره الحين بعد الحين، عند ما تحركه الفطرة، أو تدفعه الحوادث للنظر فيما بين يديه، ولكنه من التقاليد والبدع في ظلمات حوالك، ومن الخبط فيها على حال لا تخلو من المهالك، وهو في تخبطه يسمع قوارع الإنذار الإلهي ويبرق في عينيه نورا لهداية، فإذا أضاء له ذلك البرق السماوي سار، وإذا انصرف عنه بشبه الضلالات الغرارة قام وتحير لا يدري أين يذهب. ثم إنه ليعرض عن سماع نذر الكتاب ودعاة الحق، كمن يضع إصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع إرشاد المرشد ولا نصح الناصح، يخاف من تلك القوارع أن تقتله، ومن صواعق النذر أن تهلكه هذا هو شأن فريقي هذا الصنف بما يشير إليه المثلان إجمالا.
وفي تفسير الآيات تفصيل ما أشرنا إليه.
قال تعالى {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} العرب تستعمل لفظ "الذي "في الجمع كلفظي "ما" و "من" ومنه قوله تعالى {9: 69 وخضتم كالذي خاضوا} وإن شاع في "الذي" الإفراد لأن له جمعا وقد روعي في قوله "استوقد" لفظه، وفي قوله "ذهب الله بنورهم" معناه، والفصيح فيه مراعاة اللفظ أولا، ومراعاة المعنى آخرا. والتفنن في إرجاع الضمائر متفرعة ضرب من استعماله البلغاء، يقرر المعنى في الذهن ويهبه فضل تمكن وتأكيد، بما يحدث فيه من الروية والتوجه إلى الإحاطة بمعاني المختلفات.
أقول: استوقد النار طلب وقودها بفعله أو فعل غيره، وقالوا: إنه بمعنى أوقدها ويرجع إلى الأول بأنه طلب بإضرامها وإيرائها أن تقد. يقال: وقدت النار تقد وتوقدت واتقدت واستوقدت – لازم – ومعني الجملة في منافقي اليهود قد تقدم آنفا بالإجمال، وسيجيء تفصيله. وأما منافقو العرب – الذين قال تعالى فيهم من سورتهم {63: 3 ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا} الآية – فيقال فيهم: مثلهم وصفتهم في إسلامهم أولا وكفرهم آخرا كمثل فريق من الناس أوقد نارا لينتفع بها في ليلة حالكة الظلام، ويبصر ما حوله مما عساه يضره ليتقيه، أو ينفعه ليجتنيه.
{فلما أضاءت ما حوله} يقال ضاءت النار والشمس وأضاءت – لازم – ويقال ضاء المكان وأضاءته النار أي أظهرته بضوئها. قال العباس رضي الله عنه في النبي صلى الله عليه وسلم:
أنت لما ظهرت أشرقت الأر *** ض وضاءت بنورك الأفق
والمعنى المتبادر: فلما أضاءت النار ما حوله من الأمكنة والأشياء وتمكن من الانتفاع والاستضاءة بنورها {ذهب الله بنورهم} بإطفاء نارهم بنحوه مطر شديد نزل عليها، أو عاصف من الريح جرفها وبددها، وهذا بالنسبة إلى المثل، وأما بالنسبة إلى المضروب فيهم المثل من العرب، فالنور نور الإسلام الذي أضاء قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين {39: 22 أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} وذهابه في الدنيا ما عرض لهم من الشك أو الجزم بالكفر حتى لم يعودوا يدركون منافعه وفضائله، وأما ذهابه بعدها فأوله الموت. فإن المنافق يرى بالموت. أو قبيل خروج روحه منزلته بعدها، وبعده ظلمة القبر أي حياة البرزخ، وبعدها موقف الحساب والجزاء {57: 13- 15 يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا: انظرونا نقتبس من نوركم – قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا، فضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ينادونهم: ألم نكن معكم؟ قالوا: بلى، ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم، وغرتكم الأماني، حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور} الخ الآية التالية، وفي هاتين الآيتين أصدق بيان للمراد من ذهاب الله بنورهم، وكونه ليس إجبارا لهم على الكفر، ولا عبارة عن سلبهم التمكن من الإيمان، وإنما هو تعبير عن سنة الله تعالى في عاقبة فتنتهم لأنفسهم الخ وقال شيخنا في تطبيق المثل على اليهود وأمثالهم من هذه الأمة ما معناه: استوقدوا بفطرتهم السليمة نار الهداية الإلهية بتصديقهم، فلما أضاءت لهم بُروقُها، ووضح لهم طريقها، فاجأتهم التقاليد الموروثة، وباغتتهم العادات المألوفة، وشغلهم ما يتوهمونه فيها من المنافع والفوائد، وما يتوقعونه في الإعراض عنها من المصارع والمفاسد عن الاستعانة بذلك الضوء على سلوك ذلك الصراط المستقيم، والتفرقة بين نهاره المشرق وظلمات ليلها البهيم، بل استبدلوا هذا الديجور، بذلك الضياء والنور، وهذا هو معنى ذهاب نورهم. وإنما قال {ذهب الله بنورهم} ولم يقل ذهب نورهم، أو أذهب الله نورهم للإشعار بأن الله تعالى كان معهم بمعونته وتوفيقه عندما استوقدوا النار فأضاءت، وذلك أنهم كانوا قائمين على سبيل فطرته التي فطر الناس عليها، معتقدين صحة شريعته التي دعا الناس إليها، وبأنه تخلى عنهم عند ما نكبوا عن تلك السبيل، وعافوا ذلك المورد السلسبيل.
ولا شك أن المستوقد تكون له حالة مع الله مرضية في التوجه إليه وقصد اتباع هداه، والاستضاءة بنوره الذي وهبه إياه، فإذا أعرض عنه وكله الله إلى نفسه، وذهب بنوره. وإذا ذهب النور لا يبقى إلا الظلمة، وما كان هؤلاء في ظلمة واحدة، ولكنها ظلمات بعضها فوق بعض، متعددة بتعدد أنواع التقاليد التي فتنوا بها، وبتعدد أنواع الهداية التي أعرضوا عنها، ولذلك قال:
{وتركهم في ظلمات لا يبصرون} شيئا. حذف مفعول يبصرون إيذانا بالعموم، أي لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية ولا يرون طريقا من طرقها، لأنه صرف عنايته عنهم بتركهم سنته، وإهمالهم هدايته، ووكلهم إلى أنفسهم. ويا ويل من وكله الله إلى نفسه، وحرمه توفيقه، نسأل الله العافية.
هذا المثل مضروب لفريق لا ترجى هدايته، لأنه سد على نفسه جميع أبواب الهداية فلا يثق بعقله ولا بحواسه ولا بوجدانه إذا خالفت تقاليده وعدم الإبصار بذهاب النور غير كاف لتمثيل هذا اليأس والحرمان، لجواز أن يلوح بارق، أو يذر شارق، أو يصيح طارق، فتكون الهداية، وتنكشف الغواية، ولذلك عقبه بقوله تعالى {صم بكم عمي فهم لا يرجعون}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي استغرقه رسم الصورة الأولى والصورة الثانية..
ذلك أن كلا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من الأنحاء وفيه بساطة على معنى من المعاني.. الصورة الأولى صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها، والصورة الثانية صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها. أما الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقلة. وهي في حاجة إلى مزيد من اللمسات، ومزيد من الخطوط كيما تتحدد وتعرف بسماتها الكثيرة.
على أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة المسلمة، ومدى التعب والقلق والاضطراب الذي كانوا يحدثونه؛ كما توحي بضخامة الدور الذي يمكن أن يقوم به المنافقون في كل وقت داخل الصف المسلم، ومدى الحاجة للكشف عن ألاعيبهم ودسهم اللئيم.
وزيادة في الإيضاح، يمضي السياق يضرب الأمثال لهذه الطائفة ويكشف عن طبيعتها، وتقلباتها وتأرجحها ليزيد هذه الطبيعة جلاء وإيضاحا:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (18)
إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء، ولم يصموا آذانهم عن السماع، وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن الإدراك، كما صنع الذين كفروا. ولكنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه.. لقد استوقدوا النار، فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها. عندئذ (ذهب الله بنورهم) الذي طلبوه ثم تركوه: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) جزاء إعراضهم عن النور!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا التمثيل تمثيل لحال المنافقين في ترددهم بين مظاهر الإيمان وبواطن الكفر فوجه الشبه هو ظهور أمر نافع ثم انعدامُه قبل الانتفاع به، فإن في إظهارهم الإسلام مع المؤمنين صورة من حسن الإيمان وبشاشته لأن للإسلام نوراً وبركة، ثم لا يلبثون أن يرجعوا عند خلوهم بشياطينهم فيزول عنهم ذلك ويرجعوا في ظلمة الكفر أشد مما كانوا عليه لأنهم كانوا في كفر فصاروا في كفر وكَذب وما يتفرع عن النفاق من المذام، فإن الذي يستوقد النار في الظلام يتطلب رؤية الأشياء، فإذا انطفأت النار صار أشد حيرة منه في أول الأمر لأن ضوء النار قد عوَّد بصره فيظهر أثر الظلمة في المرة الثانية أقوى ويرسخ الكفر فيهم...