فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } المثل قول يشبه قولا آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره ، ولهذا ضرب الله الأمثال في كتابه . وهو أحد أقسام القرآن السبعة ، ولما ذكر حقيقة وصف المنافقين عقبه بضرب المثل زيادة في الكشف والبيان ، لأنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ، ولأن المثل تشبيه الشيء الخفي بالجلي فيتأكد الوقوف على ماهيته : وذلك هو النهاية في الإيضاح ، وشرطه أن يكون قولا فيه غرابة من بعض الوجوه واستوقد بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب ، فالسين والياء زائدتان ، ووقود النار سطوعها وارتفاع لهبها .

{ فلما أضاءت ما حوله } يعني النار ، والإضاءة فرضا الإنارة وفعلها يكون لازما ومتعديا { ذهب الله بنورهم } الذهاب زوال الشيء { وتركهم } أي أبقاهم ، وترك في الأصل بمعنى طرح وخلى { في ظلمات } جمع ظلمة والظلمة عدم النور { لا يبصرون } هذا المثل للمنافقين لبيان ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت ، فإنه يعود إلى الظلمة ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده .

قال ابن عباس في الآية نزلت في المنافقين يقول مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف ، فبينا هو كذلك إذا طفئت ناره فبقي في ظلمة حائرا متخوفا ، فكذلك حال المنافقين ، أظهروا كلمة الإيمان وآمنوا بها على أنفسهم وأموالهم وأولادهم ، وناكحوا المسلمين وقاسموهم في الغنائم فذلك نورهم ، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف ، وقيل ذهاب نورهم ظهور عقيدتهم للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل في قبر أو على الصراط والأول أولى .

وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل لأن الباطل كذلك يسطع لهب ناره لحظة ثم تخفت ومنه قولهم : للباطل صولة ثم يضمحل .

وقد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأنا عظيما في إبراز خفيات المعاني ورفع أستار محجبات الدقائق ، ولهذا استكثر الله تعالى ذلك في كتابه العزيز ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته ومواعظه .

قال ابن جرير : وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال : { رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت } وقال تعالى : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا } .