غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

17

التفسير : لما جاء بحقيقة صفة المنافقين عقبها بضرب المثل تتميماً للبيان . ولضرب الأمثال شأن ليس بالخفي في رفع الأستار عن الحقائق حتى يبرز المتخيل في معرض اليقين ، والغائب كأنه شاهد ، وفيه تبكيت للخصم الألد . ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتبه أمثاله { وتلك الأمثال نضربها للناس } [ الحشر : 21 ] وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل الدنيا مثل ظلك إن طلبته تباعد وإن تركته تتابع " " مثل الجليس الصالح كمثل الداري " وأمثال العرب أكثر من أن تحصى ، حتى صنف فيها كتب مشهورة . والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثيل وهو النظير ، ثم قيل للقول السائر المشبه مضربه بمورده مثل . ولا يخلو من غرابة ، ومن ثم حوفظ عليه من التغيير . وأما ههنا فاستعير المثل للحال أو الصفة أو القصة التي فيها غرابة ولها شأن ، شبهت حالهم العجيبة الشأن من حيث إنهم أوتوا ضرباً من الهدى بحسب الفطرة ، ولما نطقت به ألسنتهم من كلمة الإسلام فحقنوا دماءهم وأموالهم عاجلاً ، ثم لم يتوصلوا بذلك إلى نعيم الأبد باستبطانهم الكفر فيؤل حالهم إلى أنواع الحسرات وأصناف العقوبات بحال الذي استوقد ناراً في توجه الطمع إلى تسني المطلوب بسبب مباشرة أسبابه القريبة مع تعقب الحرمان والخيبة لانقلاب الأسباب . والمراد بالذي استوقد إما جمع كقوله { وخضتم كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] وحذف النون لاستطالته بصلته ، أو قصد جنس المستوقدين ، أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد ناراً ، ولولا عود الضمير إلى الذي مجموعاً في قوله { بنورهم وتركهم } لم يحتج إلى التكلفات المذكورة ، على أنه يمكن أن يشبه قصة جماعة بقصة شخص واحد نحو ،

{ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار } [ الجمعة : 5 ] ووقود النار سطوعها وارتفاع لهبها ، وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضاً . والنار جوهر لطيف مضيء حارّ محرق ، والنور ضوءها وضوء كل نير واشتقاقها من نار ينور إذا نفر ، لأن فيها حركة واضطراباً والإضاءة فرط الإنارة { جعل الشمس ضياء والقمر نوراً }

[ يونس : 5 ] وهي في الآية متعدية ، ويحتمل أن تكون غير متعدية ، مسندة إلى ما حوله ، والتأنيث للحمل على المعنى ، لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء ، أو يستتر في الفعل اللازم ضمير النار ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها على أن { ما } مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة ، و { حوله } نصب على الظرف ، وتأليفه للدوران والإطافة ، والعام حول لأنه يدور . وجواب { لما } { ذهب الله بنورهم } فالضمير يعود إلى الذي استوقد نظراً إلى المعنى ، كما أن الضمير في { حوله } راجع إليه من حيث اللفظ . وقيل : الأولى أن يقال : جوابه محذوف مثل { فلما ذهبوا به } لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من الذكر في أداء المعنى ، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله كان ما كان من حصولهم خابطين في ظلام متحيرين خائبين فيها بعد الكدح في إحياء النار . ثم إن سائلاً كأنه يسأل : ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد ؟ فقيل له : ذهب الله بنورهم أي بنور المنافقين ، وعلى هذا يحتمل أن يكون الذي مفرداً ، ويمكن أن يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان أي مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ، وكمثل الذي ذهب الله بنورهم . ومعنى إسناد الفعل إلى الله أنه إذا أطفئت النار بسبب سماوي كريح أو مطر فقد أطفأها الله وذهب بنور المستوقد ، أو يكون المستوقد مستوقد نار لا يرضاها الله . ثم إما أن تكون ناراً مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام ، وتلك النار ، متقاصرة مدة اشتعالها وإضاءتها ، فمنافعها الدنيوية قليلة البقاء ، وللباطل صولة ، ثم تضمحل ، ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت . ونار العرفج مثل لثروة كل طماح { كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله } [ المائدة : 64 ] وإما ناراً حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي ويهتدوا بها في طرق العيش فأطفأها الله وخيب أمانيهم . وإنما لم يقل ذهب الله بضوئهم على سياق { فلما أضاءت } لأن ذكر النور أبلغ في الغرض وهو إزالة النور عنهم رأساً وطمسه أصلاً ، فإن الضوء شدة النور وزيادته ، وذهاب الأصل يوجب زوال الزيادة عليه دون العكس .

والفرق بين " أذهبه " و " ذهب به " أن معنى " أذهبه " أزاله وجعله ذاهباً ، ويقال : ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه . وذهب السلطان بماله أخذه وأمسكه . وما يمسك الله فلا مرسل له ، فهو أبلغ من الإذهاب ، وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد ، وإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة :

" فتركته جزر السباع ينشنه " *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومنه قوله تعالى { وتركهم في ظلمات } والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير ، وقيل : عرض ينافي النور واشتقاقها من قولهم " ما ظلمك أن تفعل كذا " أي ما منعك وشغلك لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية . وفي جمع الظلمة وتنكيرها وإتباعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان ، وفي قوله { لا يبصرون } دلالة على أن الظلمة بلغت مبلغاً يبهت معها الواصفون . وكذا في إسقاط مفعول { لا يبصرون } وجعله من قبيل المتروك المطرح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال ، لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعدٍ أصلاً . ومحل { لا يبصرون } إما جر صفة لظلمات أي لا يبصرون فيها شيئاً ، وإما نصب مفعولاً ثانياً ، أو حالاً من هم مثل

{ ويذرهم في طغيانهم يعمهون } [ الأعراف : 186 ] أي حال كونهم ليسوا من أهل الأبصار . عن سعيد بن جبير : نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج النبي صلى الله عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب ، فلما خرج كفروا به . وكان انتظارهم له كإيقاد النار ، وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور .