الآية 17 : وقوله تعالى : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) اختلف فيه : قيل : إنها نزلت في المنافقين لأنها على إثر ذكر المنافقين ، وهو قوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا ) الآية [ البقرة : 14 ] ، وقيل : إنها نزلت في اليهود ، [ لأنه سبق ذكر اليهود ]{[228]} ، وهو قوله : ( أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) الآية [ البقرة : 6 ، ويس : 10 ] ، ويحتمل نزولها في الفريقين جميعا .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه{[229]} أنه قال : ( إن هذا من المكتوم ) ، فلا يحتمل ما قال ؛ لأنه مَثَل ضَرََبَه{[230]} الله ، والأمثال إنما تضرب لتفهم ، وتقرب إلى الفهم [ ما بعد منه . فلو حمل على ما قال لهم لم يفهم مراده ، وما قرب إلى الفهم ]{[231]} شيئا ، إلا أن يريد من المكتوم أنه لم يعلم في من نزل ، فهو محتمل . والله أعلم .
وقوله عز وجل : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) الآية : يحتمل أن تكون الإضافة إلى من ذكر من المنافقين بقوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله ) الآية [ البقرة : 8 ] وقوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) الآية [ البقرة : 14 و 76 ] . وذلك يخرج على وجوه :
أحدها : أنهم قصدوا قصد المخادعة أولياء الله والاستهزاء بهم ، ففضحهم الله تعالى بذلك في الدنيا والآخرة .
فأما في الدنيا [ فيما ]{[232]} هتك سرهم ، واطلع على ذلك أولياءه ، فعادت إليهم المخادعة ، وعوقبوا بما أطلع على ضميرهم وبما أرادوا بذلك الأمن . فأعقبهم الله خوفا دائما كما وصفهم الله : ( يخشون الناس ) الآية [ النساء : 77 ] ، وقال : ( يحسبون كل صيحة عليهم ) [ المنافقون : 4 ] ، وقال : ( رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ){[233]} [ محمد : 20 ] ، وقال : ( فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك ) الآية [ الأحزاب : 19 ] ، وقال : ( يحذرون المنافقون ان تنزل عليهم سورة ) الآية [ التوبة : 64 ] ، أو أن يكونوا طلبوا بإظهار الموافقة في الدين الشرف فيهم والعزة وكذلك عند الكفرة{[234]} بما أظهروا أنهم يخادعون بذلك المؤمنين ويستهزئون بهم ، فعلموا أنهم كذلك يظهرون للمؤمنين حالهم معهم ، فطردوا من بينهم ؛ فقال الله تعالى : ( ما هم منكم ولا منهم ) [ المجادلة : 14 ] ، وقال : ( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ) الآية [ النساء : 143 ] ، فزال عنهم ما التمسوا من الشرف والعز ، وأبدل لهم به الهوان والذل . فمثلهم في ذلك مثل مستوقد نار ليستضيء بضوئها ، وينتفع بحرها ، [ فأذهب الله ضوءه ]{[235]} حتى ذهب ما كان يأمل من الاستنارة بها والانتفاع ، وأعقبه الله تعالى خوف الاحتراق لو دنا منها ، وذهب عنه ما طلب بذلك من شرف الوقود في الأيام الشاتية{[236]} أو ما يصلح بها من الأغذية بذهاب البصر . فيكون ذلك معنى قوله : ( وهو خادعهم ) [ النساء : 142 ] و ( الله يستهزئ بهم ) [ البقرة : 15 ] ؛ إذ عوقبوا بالخوف بما قصدوا به الأمن والذل بما طلبوا به العز ، وكذلك مستوقد النار الذاهب نوره ، والله أعلم .
وعلى ذلك قوله : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) [ البقرة : 16 ] أي اختاروا الضلالة لما رجعوا إلى شياطينهم بالهدى الذي قد أظهروه عند المؤمنين ، فيكون تحقيق استهزاء الله بهم ومخادعته إياهم فعل أوليائه بهم بما أخبروا من سرائرهم وبما [ حطوا أقدارهم ]{[237]} ، وذلوا في أعينهم ، فأضيف ذلك إلى الله ؛ [ إذ به ]{[238]} فعلوا ، كما أضيفت مخادعتهم المؤمنين إليه ؛ إذ ن دينه خادعوهم ، والله أعلم .
وعلى هذا التأويل أمكن أن يخرج قول من زعم أن الآية نزلت في الكافرين ؛ إنهم كانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بما{[239]} وجدوا نعته في التوراة والإنجيل أنه ( يأمرهم بالمعروف ) الآية : [ الأعراب : 157 ] ، وقوله : ( محمد رسول الله ) إلى آخر السورة [ الفتح : 29 ] ، وقوله{[240]} عز وجل : ( يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) [ البقرة : 146 ] ، وقوله : ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) [ البقرة : 89 ] ، كانوا كمستوقد النار أي طالب الوقود ليستضيء به ، فلما ظفر به [ أذهب الله نوره ]{[241]} ، بعد معرفتهم بمنفعة نور النار ، فلم ينتفع به . فكذلك لما كفروا عند بعث [ رسول الله ]{[242]} صلى الله عليه وسلم حسدا من أنفسهم وبغيا إذ كان من غيرهم أو خشية منهم على ملكهم أو مأكلتهم بعد العلم منهم بعظم{[243]} المنفعة فيه ، ولا قوة إلا بالله .
وأما في الآخرة{[244]} [ إنهم ]{[245]} قصدوا مخادعة المؤمنين وموالاتهم في الظاهر ومشاركتهم إياهم في المنافع نحو المغانم والتوارث والتناكح ، وخالفوهم في الباطن ، فكذلك الله أشركهم في المنافع الظاهرة الحاضرة في الدنيا ، وخالفهم بمنافع دينه في الباطن الغائب ، وهو في الآخرة ؛ أراهم المشاركة مع المؤمنين ، وصرفها عنهم{[246]} في الآخرة ، فكما أروهم الموافقة في الظاهر مع المخالفة في الباطن ، فذلك مستوقد النار أظهر من نفسه الرغبة في ضوئها بالإيقاد ، وقد أذهب تعالى ضوء{[247]} بصره ، فذهب عنه منفعته عد ظنه أنه يصل إليها كالمنافقين في الآخرة إذ ظنوا في الدنيا أنهم شركاؤهم في الآخرة ، لو كانت . ولذلك قالوا : ( انظرونا نقتبس من نوركم ) [ الحديد : 13 ] وقالوا{[248]} : ( ألم نكن معكم ) الآية [ النساء : 141 ] .
فذلك وجه الاستهزاء بهم والمخادعة أنه أشركهم في أحكام الدنيا ، وخالفهم في أحكام الآخرة .
وعلى ذلك اشتراء الضلالة بالهدى على معنى اختيارهم ما فيه الهلاك على ما فيه نجاتهم .
وعلى ذلك يخرج تأويل من صرف إلى أهل الكتاب لأنهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ آمنوا بكتبهم ؛ وقد كان فيها نعته الشريف ، فلما وصلوا إلى منافع الإيمان بالبعث إليهم ، وشاهدوا ، كفروا{[249]} به ، فعوقبوا بحرمان منافع كتبهم وإيمانهم عند معاينة الجزاء كما ردوا إيمانهم عند المشاهدة ، والله أعلم .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه{[250]} أنه ضم تأويل هذه الآية التي تتلوها من قوله : ( أو كصيب من السماء ) [ البقرة : 19 ] إلى قوله : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) [ الحج : 11 ] . وذلك ، والله أعلم ، أنهم قوم لا يعرفون الله حق المعرفة ، فيعبدونه بحق الربوبية له قبلهم ، ولا يؤمنون بالآخرة ، فيكون عملهم للعواقب ، ولا يعرفون غير الدنيا ومنافعها ، فجعلوا دينهم وعبادتهم ثمنا لها ؛ فإذا رأوا في دين الإسلام الغنائم والسلوة أو تجارتهم مربحة اطمأنوا بها ، واجتهدوا بالسعي فيها . وإذا أصابتهم الشدة والبلايا رأوا تجارتهم مخسرة ، فانصرفوا{[251]} إلى غير ذلك الدين . فمثلهم مثل المستوقد{[252]} نارا ، إنه يجتهد في الإيقاد مادام يطمع في نزر النار ومنافع حرها لمصالح الأطعمة . فإذا ذهب نور بصره أبغض النار بما يخشى من الاحتراق بالدنو منها وبما يذهب من منافع خفية إن لم يكن استوقد ؛ كالمنافق في ما استقبله المكروه في الإسلام تمنى أن لم يكن أسلم قط . وذلك قوله : ( وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب ) [ الأحزاب : 20 ] وقولهم{[253]} : ( لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) [ آل عمران : 154 ] وقولهم : ( قد أخذنا أمرنا من قبل ) [ التوبة : 50 ] وقوله : ( أنعم الله عَلَيَّ إذ لم أكن معهم شهيدا ) [ النساء : 72 ] .
وكذلك البرق الذي يضيء ؛ يمشي المرء في ضوئه . وكذلك المنافق إذا رأى خيرا في الإسلام مشى إليه ، وإذا أظلم عليه قام متحيرا حزينا ألا يكون اختار السلوك ، والله الموفق .
قال أبو بكر الأصم : ( مثل من يظهر / 5- أ/ الإيمان في ما يتزين بنوره في الناس مثل مستوقد النار في ما يستضيء حول النار بنورها ، ثم يذهب الله نوره في الآخر كما أذهب هو في السر ، وكذلك أذهب الله نور المستوقد ، فيذهب به التزين بالنور حول النار . قال : وقيل : ذا لعن ؛ كما يقال : أذهب الله نوره ، أي الذي كان يظهره ، فيبقى المنافق في ظلمات الآخرة والمستوقد في ظلمات العمى والليل .
ثم قال : جعل الدعاء إلى الإسلام كالصيب ، وما فيه من الجهاد كظلمة{[254]} الليل ، وما فيه من الغنيمة كالبرق ، وجعل أصابعهم في الآذان من سماع ما في الإسلام من الشدائد نحو جعل ذلك من الصواعق ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.