ثم قال{[5968]} { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } أي : ببعض ذنوبهم السالفة ، كما قال بعض السلف : إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، وإن من جَزَاء السيئةَ السيئة بعدها{[5969]} .
ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } أي : عَمّا كان منهم من الفرار { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : يغفر الذنب ويحلُم عن خلقه ، ويتجاوز عنهم ، وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان ، رضي الله عنه ، وتوليه يوم أحد ، وأن الله [ قد ]{[5970]} عفا عنهم ، عند قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } ومناسب ذكره هاهنا .
قال{[5971]} الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عَمْرو ، حدثنا زائدة ، عن عاصم ، عن شقيق ، قال : لقي عبدُ الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة{[5972]} فقال له الوليد : ما لي أراك جفوتَ أمير المؤمنين عثمانَ ؟ فقال له عبد الرحمن : أبلغه أني لم أفر يوم عَيْنَيْن{[5973]} - قال عاصم : يقول يوم أحد - ولم أتخلف عن بدر ، ولم أترك سُنة عمر . قال : فانطلق فَخَبر ذلك عثمان ، قال : فقال : أما قوله : إني لم أفر يوم عَيْنَيْن{[5974]} فكيف يعَيرني بذَنْب قد{[5975]} عفا الله عنه ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } وأما قولُهُ : إني تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقَيَّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت ، وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم ، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهِد . وأما قوله : " إني لم أترك سنَّة عمر " فإني لا أطيقها ولا هو ، فأته فحدثه بذلك{[5976]} .
اختلف المتأولون في من المراد بقوله تعالى : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان }{[3637]} فقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه : المراد بها جميع من تولى ذلك اليوم عن العدو .
قال القاضي أبو محمد : يريد على جميع أنحاء التولي الذي لم يكن تحرفاً لقتال ، وأسند الطبري رحمه الله قال : خطب عمر رضي الله عنه يوم الجمعة فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى قوله { إن الذين تولوْا منكم يوم التقى الجمعان } ، قال : لما كان يوم -أحد- هزمنا ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأني أروى{[3638]} ، والناس يقولون قتل محمد ، فقلت : لا أجد أحداً يقول : قتل محمد إلا قتلته ، حتى اجتمعنا على الجبل فنزلت هذه الآية كلها ، قال قتادة : هذه الآية في كل من فر بتخويف الشيطان وخدعه ، وعفا الله عنهم هذه الزلة ، قال ابن فورك : لم يبق مع النبي يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلاً ، أبو بكر ، وعلي ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسائرهم من الانصار أبو طلحة وغيره وقال السدي وغيره : إنه لما انصرف المسلمون عن حملة المشركين عليه صعد قوم الجبل ، وفر آخرون حتى أتوا المدينة ، فذكر الله في هذه الآية الذين فروا إلى المدينة خاصة .
قال القاضي : جعل الفرار إلى الجبل تحيزاً إلى فئة ، وقال عكرمة : نزلت هذه الآية فيمن فر من المؤمنين فراراً كثيراً ، منهم رافع بن المعلى{[3639]} ، وأبو حذيفة بن عتبة{[3640]} ورجل آخر ، قال ابن إسحاق : فر عثمان بن عفان ، وعقبة بن عثمان وأخوه سعد ، ورجلان من الأنصار زرقيان ، حتى بلغوا الجلعب ، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص ، فأقاموا به ثلاثة أيام ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم : لقد ذهبتم فيها عريضة{[3641]} ، قال ابن زيد : فلا أدري هل عفا عن هذه الطائفة خاصة ؟ أم على المؤمنين جميعاً ؟ و «استزل » - معناه طلب منهم أن يزلوا ، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه ، وقوله تعالى : { ببعض ما كسبوا } ظاهره عند جمهور المفسرين : أنه كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم ، وبخلق ما اكتسبوه أيضاً هم من الفرار ، وذهب الزجّاج وغيره : إلى أن المعنى ، أن الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة ، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها ، قال المهدوي : بما اكتسبوا من حب الغنيمة والحرص على الحياة .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل لفظ الآية أن تكون الإشارة في قوله : { ببعض ما كسبوا } إلى هذه العبرة ، أي كان للشيطان في هذا الفعل الذي اكتسبوه استزلال لهم ، فهو شريك في بعضه ، ثم أخبر تعالى بعفوه عنهم ، فتأوله جمهور العلماء على حط التبعة في الدنيا والآخرة ، وكذلك تأوله عثمان بن عفان في حديثه مع عبد الله بن عدي بن الخيار{[3642]} ، وكذلك تأوله ابن عمر في حديثه مع الرجل العراقي{[3643]} ، وقال ابن جريج : معنى الآية ، { عفا الله عنهم } إذ لم يعاقبهم ، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت ، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرها{[3644]} .
استئناف لبيان سبب الهزيمة الخفيّ ، وهي استزلال الشيطان إيّاهم ، وأراد بـ { يوم التقى الجمعان } يومَ أُحُد ، و( استزلّهم ) بمعنى أزلّهم أي جعلهم زالّين ، والزلل مستعار لفعل الخطيئة ، والسين والتاء فيه للتأكيد ، مثل استفاد واستبشر واستنشق وقول النَّابغة :
وهم قتلوا الطائي بالجوّ عنوة *** أبا جابر فاسْتَنْكحوا أم جابر
أي نكحوا . ومنه قوله تعالى : { واستغنى اللَّه } [ التغابن : 6 ] وقوله : { أبى واستكبر } [ البقرة : 34 ] . ولا يحسن حمل السين والتاء على معنى الطلب لأنّ المقصود لومهم على وقوعهم في معصية الرسول ، فهو زلل واقع .
والمراد بالزّلل الانهزام ، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات القدم على ضدّه وهو النَّصر قال تعالى : { وثبت أقدامنا } [ آل عمران : 147 ] .
( والباء في { ببعض ما كسبوا } للسببية وأريد { ببعض ما كسبوا } مفارقة موقفهم ، وعصيان أمر الرّسول ، والتنازع ، والتعجيل إلى الغنيمة ، والمعنى أن ما أصابهم كان من آثار الشيطان ، رماهم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم ، والمقصد من هذا إلقاء تبعة ذلك الانهزام على عواتقهم ، وإبطال ما عرّض به المنافقون من رمى تبعته على أمر الرسول عليه الصلاة والسّلام بالخروج ، وتحريض الله المؤمنين على الجهاد . وذلك شأن ضعاف العقول أن يشتبه عليهم مقارن الفعل بسببه ، ولأجل تخليص الأفكار من هذا الغلط الخفيّ وضع أهل المنطق باب القضيّة اللزوميّة والقضيّة الاتفاقية .
ومناسبةُ ذكر هذه الآية عقب الَّتي قبلها أنَّه تعالى بعد أن بيَّن لهم مرتبة حقّ اليقين بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم } انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة ، فبيّن لهم أنَّه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم الَّتي أملاها الشيطان عليهم وأضلّهم ، فلم يتفطّنوا إلى السبب ، والتبس عليهم بالمقارن ، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطىء وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصّحيح ، وتزكية النفوس ، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين ، وتعظيمه عندهم ، وتنفيرهم من الشيطان ، والأفعالِ الذميمة ، ومعصية الرسول ، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين . وعلى هذا فالمراد من الذين تولّوا نفس المخاطبين بقوله : { ثم صرفكم عنهم . . . } [ آل عمران : 152 ] الآيات . وضمير { منكم } راجع إلى عامّة جيش أُحُد فشمل الذين ثبتوا ولم يفرّوا . وعن السديّ أنّ الذين تولّوا جماعة هربوا إلى المدينة .
وللمفسّرين في قوله : { استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } احتمالات ذكرها صاحب « الكشاف » والفخر ، وهي بمعزل عن القصد .
وقوله : { ولقد عفا الله عنهم } أعيد الإخبار بالعفْو تأنيساً لهم كقوله : { ولقد عفا عنكم } .