ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ؛ ليظهر له دليلا واضحا على أنه الفاعل المختار ، القادر على كل شيء . فلما ألقى موسى تلك العصا{[21970]} من يده انقلبت في الحال حَيَّةً عظيمة هائلة في غاية الكبر ، وسرعة الحركة مع ذلك ؛ ولهذا قال : { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ } والجان : ضرب من الحيات ، أسرعه حركة ، وأكثره اضطرابا - وفي الحديث نَهْيٌ عن قتل جِنَّان{[21971]} البيوت{[21972]} - فلما عاين موسى ذلك { وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي : لم يلتفت من شدة فرقه { يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ } أي : لا تخف مما ترى ، فإني أريد أن أصطَفيك رسولا وأجعلك نبيًا وجيهًا .
{ وألق عصاك } عطف على { بورك } أي نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك ، ويدل عليه قوله { وأن ألق عصاك } بعد قوله { أن يا موسى إني أنا الله } بتكرير أن . { فلما رآها تهتز } تتحرك باضطراب . { كأنها جان } حية خفيفة سريعة ، وقرىء " جأن " على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين . { ولى مدبرا ولم يعقب } ولم يرجع من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار ، وإنما رعب لظنه أن ذلك الأمر أريد به ويدل عليه قوله : { يا موسى لا تخف } أي من غيري ثقة بي أو مطلقا لقوله : { إني لا يخاف لدي المرسلون } أي حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق فإنهم أخوف الناس أي من الله تعالى ، أو لا يكون لهم عندي سوء عاقبة فيخافون منه .
لعل قصد إفادة قوة توليه لمّا رأى عصاه تهْتَزّ هو الداعي لتأكيد فعل { ولّى } بقوله : { مدبراً ولم يعقب } فتأمّل .
والإدبار : التوجه إلى جهة الخلف وهو ملازم للتولي فقوله : { مدبراً } حال لازمة لفعل { ولَّى } .
والتعقب : الرجوع بعد الانصراف مشتق من العَقب لأنه رجوع إلى جهة العَقب ، أي الخلْف ، فقوله : { ولم يعقب } تأكيد لشدة تولّيه ، أي ولّى تولياً قوياً لا تردد فيه . وكان ذلك التولي منه لتغلّب القوة الواهمة التي في جبلة الإنسان على قوة العقل الباعثة على التأمل فيما دل عليه قوله : { أنا الله العزيز } من الكناية عن إعطائه النبوءة والتأييد ، إذ كانت القوة الواهمة متأصلة في الجبلة سابقة على ما تلقاه من التعريض بالرسالة ، وتأصُّل القوة الواهمة يزول بالتخلق وبمحاربة العقل للوهَم فلا يزالان يتدافعان ويضعف سلطان الوَهَم بتعاقب الأيام .
وقوله : { يا موسى لا تخف } مقول قول محذوف ، أي قلنا له . والنهي عن الخوف مستعمل في النهي عن استمرار الخوف . لأن خوفه قد حصل . والخوف الحاصل لموسى عليه السلام خوف رغب من انقلاب العصا حية وليس خوف ذَنب ، فالمعنى : لا يَجْبُنُ لديَّ المرسلون لأني أحفَظُهم .
و { إني لا يخاف لديّ المرسلون } تعليل للنهي عن الخوف وتحقيق لما يتضمنه نهيه عن الخوف من انتفاء موجبه .
وهذا كناية عن تشريفه بمرتبة الرسالة إذ عُلّل بأن المرسلين لا يخافون لدى الله تعالى . ومعنى { لديّ } في حضرتي ، أي حين تلقِّي رسالتي . وحقيقة { لدي } مستحيلة على الله لأن حقيقتها المكان .
وإذا قد كان انقلاب العصا حية حصل حين الوحي كان تابعاً لما سبقه من الوحي ، وهذا تعليم لموسى عليه السلام التخلق بخلق المرسلين من رِبَاطة الجأش . وليس في النهي حط لمرتبة موسى عليه السلام عن مراتب غيره من المرسلين وإنما هو جار على طريقة : مثلُكَ لا يبخل . والمراد النهي عن الخوف الذي حصل له من انقلاب العصا حية وعن كل خوف يخافه كما في قوله : { فاضْرِب لهم طريقاً في البَحر يَبَساً لا تخافُ درَكاً ولا تخشى } [ طه : 77 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.