تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

وقوله : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ } وذلك أن أيوب عليه السلام كان قد غضب على زوجته ووجد عليها في أمر فعلته . قيل : إنها باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه فلامها على ذلك وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة جلدة . وقيل : لغير ذلك من الأسباب . فلما شفاه الله وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثًا - وهو : الشِّمراخ - فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة وقد بَرّت يمينه وخرج من حنثه ووفى بنذره وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأناب إليه ولهذا قال تعالى : { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أثنى الله تعالى عليه ومدحه بأنه { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي : رَجَّاع منيب ولهذا قال تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 ، 3 ]

وقد استدل كثير من الفقهاء بهذه الآية الكريمة على مسائل في الأيمان وغيرها وأخذوها بمقتضاها ، ومنعت طائفة أخرى من الفقهاء من ذلك ، وقالوا : لم يثبت أن الكفارة كانت مشروعة في شرع أيوب ، عليه السلام ، فلذلك رخص له في ذلك ، وقد أغنى الله هذه الأمة بالكفارة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

{ وخذ بيدك ضغثا } عطف على اركض والضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش ونحوه . { فاضرب به ولا تحنث } روي أن زوجته ليا بنت يعقوب وقيل رحمة بنت افراثيم بن يوسف ذهبت لحاجة فأبطأت فحلف إن برئ ضربها مائة ضربة ، فحلل الله يمينه بذلك وهي رخصة باقية في الحدود . { إنا وجدنا صابرا } فيما أصابه في النفس والأهل والمال ، ولا يخل به شكواه إلى الله من الشيطان فإنه لا يسمى جزعا كتمني العافية وطلب الشفاء مع أنه قال ذلك خيفة أن يفتنه أو قومه في الدين . { نعم العبد } أيوب . { إنه أواب } مقبل بشراشره على الله تعالى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

و «الضغث » القبضة الكبيرة من القضبان ونحوها من الشجرة الرطب ، قاله الضحاك وأهل اللغة فيضرب به ضربة واحدة فتبر يمينه ، ومنه قولهم : ضغث على إبالة . والإبالة : الحزم من الحطب . و «الضغث » : القبضة عليها من الحطب أيضاً ، ومنه قول الشاعر [ عوف بن الخرع ] : [ الطويل ]

وأسفل مني نهدة قد ربطتها***وألقيت ضغثاً من خلى متطيب

ويروى متطيب . هذا حكم قد ورد في شرعنا عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في حد زنا لرجل زمن ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذق نخلة فيها شماريخ مائة أو نحوها ، فضرب به ضربة ، ذكر الحديث أبو داود ، وقال بهذا بعض فقهاء الأمة ، وليس يرى ذلك مالك بن أنس وجميع أصحابه ، وكذلك جمهور العلماء على ترك القول به ، وأن الحدود والبر في الأيمان لا يقع إلا بإتمام عدد الضربات .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } مقول لقول محذوف دلّت عليه صيغة الكلام ، والتقدير : وقلنا خذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث ، وهو قول غيرُ القول المحذوف في قوله : { اركض برجلك } [ ص : 42 ] لأن ذلك استجابة دعوة وهذا إفتاء برخصة ، وذلك له قصته ، وهذا له قصة أخرى أشارت إليها الآية إجمالاً ولم يرد في تعيينها أثر صحيح ومجملها أن زوج أيوب حاولت عملاً ففسد عليه صبره من استعانة ببعض الناس على مواساته فلما علم بذلك غضب وأقسم ليضربنّها عدداً من الضرب ثم ندم وكان محبّاً لها ، وكانت لائذة به في مدة مرضه فلما سُرِّي عنه أشفق على امرأته من ذلك ولم يكن في دينهم كفارة اليمين فأوحى الله إليه أن يضربها بحُزمة فيها عددٌ من الأعواد بعدد الضربات التي أقسم عليها رفقاً بزوجه لأجله وحفظاً ليمينه من حنثه إذ لا يليق الحنث بمقام النبوءة . وليست هذه القضية ذات أثر في الغرض الذي سيقت لأجله قصة أيوب من الأسوة وإنما ذكرت هنا تكملة لمظهر لطف الله بأيوب جزاء على صبره .

ومعاني الآية ظاهرة في أن هذا الترخيص رفق بأيوب ، وأنه لم يكن مثله معلوماً في الدّين الذي يدين به أيوبُ إبقاء على تقواه ، وإكراماً له لحبه زوجه ، ورفقاً بزوجه لبرّها به ، فهو رخصة لا محالة في حكم الحنث في اليمين .

فجاء علماؤنا ونظروا في الأصل المقرر في المسألة المفروضة في أصول الفقه وهي : أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا إذا حكاه القرآن أو السنة الصحيحة ، ولم يكن في شرعنا ما ينسخه من نص أو أصل من أصول الشريعة الإسلامية . فأما الذين لم يروا أن شرع من قبلنا شرع لنا وهم أبو بكر الباقلاني من المالكية وجهورُ الشافعية وجميعُ الظاهرية فشأنهم في هذا ظاهر ، وأما الذين أثبتوا أصل الاقتداء بشرع مَن قبلنا بقيوده المذكورة وهم مالك وأبو حنيفة والشافعي فتخطَّوا للبحث في أن هذا الحكم الذي في هذه الآية هل يقرر مثلُه في فقه الإِسلام في الإِفتاء في الأيمان وهل يتعدى به إلى جعله أصلاً للقياس في كل ضَرب يتعين في الشرع له عدد إذا قام في المضروب عذر يقتضي الترخيص بعد البناء على إثبات القياس على الرخص ، وهل يتعدّى به إلى جعله أصلاً للقياس أيضاً لإِثبات أصل مماثل وهو التحيّل بوجه شرعي للتخلص من واجب تكليففٍ شرعي ، واقتحموا ذلك على ما في حكاية قصة أيوب من إجمال لا يتبصر به الناظر في صفة يمينه ولا لفظه ولا نيته إذ ليس من مقصد القصة .

فأما في الأيمان فقد كفانا الله التكلّف بأن شرع لنا كفارات الأيمان .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني فعلت الذي هو خير " ، فصار ما في شرعنا ناسخاً لما شرع لأيوب فلا حاجة إلى الخوض فيها ، ومذهب الحنفية العمل بذلك استناداً لكونه شرعاً لمن قبلنا وهو قول الشافعي .

وقال مالك : هذه خاصة بأيوب أفتى الله بها نبيئاً . وحكى القرطبي عن الشافعي أنه خصه بما إذا حلف ولم تكن له نية كأنه أخرجه مُخرج أقل ما يصدق عليه لفظ الضرب والعدد . وأما القياس على فتوى أيوب في كلّ ضرب معيّن بعدد في غير اليمين ، أي في باب الحدود والتعزيرات فهو تطوح في القياس لاختلاف الجنس بين الأصل والفرع ، ولاختلاف مقصد الشريعة من الكفارات ومقصدها من الحدود والتعزيرات ، ولترتب المفسدة على إهمال الحدود والتعزيرات دون الكفارات . ولا شك أن مثل هذا التسامح في الحدود يفضي إلى إهمالها ومصيرها عبثاً . وما وقع في « سنن أبي داود » من حديث أبي أمامة عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار « أنّ رجلاً منهم كان مريضاً مضنى فدخلت عليه جارية فهشّ لها فوقع عليها فاستفتوا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظْم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربةً واحدة . ورواه غير أبي داود بأسانيد مختلفة وعبارات مختلفة . وما هي إلا قصة واحدة فلا حجة فيه لأنه تطرقته احتمالات .

أولها : أن ذلك الرجل كان مريضاً مضنى ولا يُقام الحد على مثله .

الثاني : لعلّ المرض قد أخل بعقله إخلالاً أقدمه على الزنا فكان المرض شبهة تدْرأ الحدَّ عنه .

الثالث : أنه خبر آحاد لا ينقض به التواتر المعنوي الثابتُ في إقامة الحدود .

الرابع : حمله على الخصوصية . ومذهب الشافعي أنه يعمل بذلك في الحد للضرورة كالمرض وهو غريب لأن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف متضَافرة على أن المريض والحامل يُنتظران في إقامة الحد عليهما حتى يبرآ ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تضرب الحامل بشماريخ ، فماذا يفيد هذا الضرب الذي لا يزجر مُجرماً ، ولا يدفع مأثماً ، وفي « أحكام الجصّاص » عن أبي حنيفة مثل ما للشافعي . وحكى الخطابي أن أبا حنيفة ومالكاً اتفقا على أنه لا حدّ إلا الحد المعروف . فقد اختلف النقل عن أبي حنيفة .

{ إِنَّا وجدناه صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أواب } .

علة لجملة { اركض برجلِكَ } [ ص : 42 ] وجملة { ووهبنا له أهلهُ } [ ص : 43 ] ، أي أنعمنا عليه بجبر حاله ، لأنا وجدناه صابراً على ما أصابه فهو قدوة للمأمور بقوله : { اصبر على ما يقولون } [ المزمل : 10 ] صلى الله عليه وسلم فكانت ( إِنَّ ) مغنية عن فاء التفريع .

ومعنى { وجدناهُ } أنه ظهر في صبره ما كان في علم الله منه .

وقوله : { نِعم العبد إنَّهُ أوَّابٌ } مثل قوله في سليمان { نِعم العبد إنَّه أوَّابٌ } [ ص : 30 ] ، فكان سليمان أوَّاباً لله من فتنة الغنى والنعيم ، وأيوب أوَّاباً لله من فتنة الضرّ والاحتياج ، وكان الثناء عليهما متماثلاً لاستوائهما في الأوبة وإن اختلفت الدواعي . قال سفيان : أثنى الله على عبدين ابتليا : أحدهما صابر ، والآخر شاكر ، ثناءً واحداً . فقال لأَيوب ولسليمان { نِعْمَ العبد إنَّه أوَّابٌ } .