تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ} (40)

39

قال قتادة : وهو العميق . { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } أي : لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام ، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يدري أين يذهب ، ولا [ هو ]{[21282]} يعرف حال من يقوده ، بل كما يقال في المثل للجاهل : أين تذهب ؟ قال : معهم . قيل : فإلى أين يذهبون ؟ قال : لا أدري .

وقال العوفي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ } يعني بذلك : الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر ، وهي كقوله : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ البقرة : 7 ] ، وكقوله{[21283]} : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [ الجاثية : 23 ] .

وقال أُبيّ بن كعب في قوله : { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } فهو يتقلب في خمسة من الظلم : كلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات ، إلى النار .

وقال الربيع بن أنس ، والسُّدِّي نحو ذلك أيضًا .

وقوله : { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } أي : من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائر بائر كافر ، كما قال تعالى : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ } [ الأعراف : 186 ] وهذا [ في ]{[21284]}

مُقابلة ما قال في مثل المؤمنين : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نورًا ، وعن أيماننا نورًا ، وعن شمائلنا نورًا ، وأن يعظم لنا نورًا .


[21282]:- زيادة من ف ، أ.
[21283]:- في أ : "وقوله".
[21284]:- زيادة من ف ، أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ} (40)

{ أو كظلمات } عطف على { كسراب } و { أو } للتخيير فإن أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب . ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب ، أو للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب وإن كانت قبيحة فكالظلمات ، أو للتقسيم باعتبار وقتين فإنها كالظلمات في الدنيا كالسراب في الآخرة . { في بحر لجي } ذي لج أي عميق منسوب إلى اللج وهو معظم الماء { يغشاه } يغشى البحر . { موج من فوقه موج } أي أمواج مترادفة متراكمة . { من فوقه } من فوق الموج الثاني . { سحاب } غطى النجوم ويحجب أنوارها ، والجملة صفة أخرى لل{ بحر } { ظلمات } أي هذه ظلمات . { بعضها فوق بعض } وقرأ ابن كثير { ظلمات } بالجر على إبدالها من الأولى أو بإضافة ال{ سحاب } إليها في رواية البزي . { إذا أخرج يديه } وهي أقرب ما يرى إليه . { لم يكد يراها } لم يقرب أن يراها فضلا أن يراها كقول ذي الرمة :

إذا غير النأي المحبين لم يكد *** رسيس الهوى من حب مية يبرح

والضمائر للواقع في البحر وإن لم يجر ذكره لدلالة المعنى عليه . { ومن لم يجعل الله له نورا } ومن لم يقدر له الهداية . ليوقفه لأسبابها . { فما له من نور } خلاف الموفق الذي له نور على نور .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ} (40)

وقوله تعالى : { أو كظلمات } عطف على قوله { كسراب } ، وهذا المثال الأخير تضمن صفة أعمالهم في الدنيا ، أي إنهم من الضلال ونحوه في مثل هذه الظلمة المجتمعة من هذه الأشياء ، وذهب بعض الناس إلى أن في هذا المثال أجزاء تقابل أجزاء من الممثل فقال «الظلمات » الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة ، و «البحر اللجي » صدر الكافر وقلبه ، و «اللجي » معناه ذو اللجة ، وهي معظم الماء وغمره واجتماع ما به أشد لظلمته ، و «الموج » هو الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة ، و «السحاب » هو شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان وما رين به على قلبه .

قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا التأويل سائغ وإن لا يقدر هذا التقابل سائغ ، وقرأ سفيان بن حسين{[8734]} «أوَ كظلمات » بفتح الواو ، وقرأ جمهور السبعة «سحابٌ » بالرفع والتنوين «ظلمات » بالرفع ، وقرأ ابن كثير في رواية قنبل «سحابٌ » بالرفع والتنوين «ظلمات » بالخفض على البدل من «ظلمات » الأول ، وقرأ ابن أبي بزة عن ابن كثير «سحابُ » بغير تنوين على الإضافة على الظلماتٍ ، وقوله { إذا أخرج يده لم يكد يراها } لفظ يقتضي مبالغة الظلمة ، واختلف الناس في هذه اللفظ هل يقتضي أن هذا الرجل المقدر في هذه الأحوال وأخرج يده رأى يده ولم يرها البتة ، فقالت فرقة لم يرها جملة وذلك أن «كاد » معناها قارب فكأنه قال { إذا أخرج يده } لم يقارب رؤيتها ، وهذا يقتضي نفي الرؤية جملة ، وقالت فرقة بل رآها بعد عسر وشدة وكان أن لا يراها ووجه ذلك أن «كاد » إذا صحبها حرف النفي وجب الفعل الذي بعدها وإذا لم يصحبها انتفى الفعل .

قال أبو محمد رحمه الله : وهذا لازم متى كان حرف النفي بعد «كاد » داخلاً على الفعل الذي بعدها ، تقول : كاد زيد يقوم ، فالقيام منفي فإذا قلت كاد زيد أن لا يقوم فالقيام واجب واقع ، وتقول كاد النعام يطير ، فهذا يقتضي نفي الطيران عنه ، فإذا قلت كاد النعام أن يطير وجب الطيران له ، فإذ كان حرف النفي مع «كاد » فالأمر محتمل مرة يوجب الفعل ومرة ينفيه ، تقول المفلوج لا يكاد يسكن فهذا كلام صحيح تضمن نفي السكون ، وتقول رجل متكلم{[8735]} لا يكاد يسكن ، فهذا كلام صحيح يتضمن إيجاب السكون بعد جهد ونادراً ومنه قوله تعالى : { فذبحوها وما كادوا يفعلون }{[8736]} [ البقرة : 71 ] نفي مع كاد تضمن وجوب الذبح ، وقوله في هذه الآية { لم يكد يراها } نفي مع كاد يتضمن في أحد التأويلين ، نفي الرؤية ، ولهذا ونحوه قال سيبويه رحمه الله إن أفعال المقاربة لها نحو آخر بمعنى أنها دقيقة التصرف{[8737]} ، وقوله تعالى : { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } قالت فرقة يريد في الدنيا ، أي من لم يهده الله لم يهتد ، وقالت فرقة أراد في الآخرة أي من لم يرحمه الله وينور حاله بالعفو والرحمة فلا رحمة له ، والأول أبين وأليق بلفظ الآية ، وأيضاً فذلك لازم نور الآخرة إنما هو لمن نور قلبه في الدنيا وهدى ، وقد قررت الشريعة أن من مر لآخرته على كفره فهو غير مرحوم ولا مغفور له .


[8734]:سفيان بن حسين بن حسن، أبو محمد، أو أبو الحسن الواسطي، ثقة ـ في غير الزهري ـ باتفاقهم، من السابعة، مات بالري مع المهدي، وقيل: مات في أول خلافة الرشيد. (تقريب التهذيب).
[8735]:في بعض النسخ: "رجل متصرف...".
[8736]:من الآية (71) من سورة (البقرة).
[8737]:قال النحاس: "وأصح الأقوال في هذا أن المعنى: لم يقارب رؤيتها، فإذا لم يقارب رؤيتها لم يرها رؤية بعيدة ولا قريبة".