مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ} (40)

وأما المثل الثاني فهو قوله : { أو كظلمات في بحر لجي } وفي لفظة ( أو ) ههنا وجوه . أحدها : اعلم أن الله تعالى بين أن أعمال الكفار إن كانت حسنة فمثلها السراب وإن كانت قبيحة فهي الظلمات . وثانيها : تقدير الكلام أن أعمالهم إما كسراب بقيعة وذلك في الآخرة ، وإما كظلمات في بحر وذلك في الدنيا . وثالثها : الآية الأولى في ذكر أعمالهم وأنهم لا يتحصلون منها على شيء ، والآية الثانية في ذكر عقائدهم فإنها تشبه الظلمات كما قال : { يخرجهم من الظلمات إلى النور } أي من الكفر إلى الإيمان يدل عليه قوله تعالى : { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } وأما البحر اللجي فهو ذو اللجة التي هي معظم الماء الغمر البعيد القعر ، وفي اللجي لغتان كسر اللام وضمها ، وأما تقرير المثل فهو أن البحر اللجي يكون قعره مظلما جدا بسبب غمورة الماء ، فإذا ترادفت عليه الأمواج ازدادت الظلمة فإذا كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى ، فالواقع في قعر هذا البحر اللجي يكون في نهاية شدة الظلمة ، ولما كانت العادة في اليد أنها من أقرب ما يراها ومن أبعد ما يظن أنه لا يراها فقال تعالى : { لم يكد يراها } وبين سبحانه بهذا البلوغ تلك الظلمة إلى أقصى النهايات ثم شبه به الكافر في اعتقاده وهو ضد المؤمن في قوله تعالى : { نور على نور } وفي قوله : { يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } ولهذا قال أبي بن كعب الكافر يتقلب في خمس من الظلم كلامه وعمله ومدخله ومخرجه ومصيره إلى النار ، وفي كيفية هذا التشبيه وجوه أخر . أحدها : أن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات ظلمة البحر وظلمة الأمواج وظلمة السحاب وكذا الكافر له ظلمات ثلاثة ظلمة الاعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل عن الحسن . وثانيها : شبهوا قلبه وبصره وسمعه بهذه الظلمات الثلاث عن ابن عباس . وثالثها : أن الكافر لا يدري ، ولا يدري أنه لا يدري ، ويعتقد أنه يدري ، فهذه المراتب الثلاث تشبه تلك الظلمات . ورابعها : أن هذه الظلمات متراكمة فكذا الكفار لشدة إصراره على كفره ، قد تراكمت عليه الضلالات حتى أن أظهر الدلائل إذا ذكرت عنده لا يفهمها . وخامسها : قلب مظلم في صدر مظلم .

أما قوله : { ظلمات بعضها فوق بعض } فروي عن ابن كثير أنه قرأ ( سحاب ) وقرأ ( ظلمات ) بالجر على البدل من قوله : { أو كظلمات } وعنه أيضا أنه قرأ ( سحاب ظالمات ) كما يقال سحاب رحمة وسحاب عذاب على الإضافة وقراءة الباقين { سحاب ظلمات } كلاهما بالرفع والتنوين وتمام الكلام عند قوله : { سحاب } ثم ابتدأ { ظلمات } أي ما تقدم ذكره ظلمات بعضها فوق بعض .

أما قوله : { لم يكد يراها } ففيه قولان : أحدهما : أن كاد نفيه إثبات وإثباته نفي فقوله : { وما كادوا يفعلون } نفي في اللفظ ولكنه إثبات في المعنى لأنهم فعلوا ذلك وقوله عليه الصلاة والسلام : «كاد الفقر أن يكون كفرا » إثبات في اللفظ لكنه نفي في المعنى لأنه لم يكفر فكذا ههنا قوله : { لم يكد يراها } معناه أنه رآها . والثاني : أن كاد معناه المقاربة فقوله : { لم يكد يراها } معناه لم يقارب الوقوع ومعلوم أن الذي لم يقارب الوقوع لم يقع أيضا وهذا القول هو المختار والأول ضعيف لوجهين : الأول : أن ما يكون أقل من هذه الظلمات فإنه لا يرى فيه شيء فكيف مع هذه الظلمات . الثاني : أن المقصود من هذا التمثيل المبالغة في جهالة الكفار وذلك إنما يحصل إذا لم توجد الرؤية البتة مع هذه الظلمات .

أما قوله : { ومن لم يجعل الله نورا فما له من نور } فقال أصحابنا إنه سبحانه لما وصف هداية المؤمن بأنها في نهاية الجلاء والظهور عقبها بأن قال : { يهدي الله لنوره من يشاء } ولما وصف ضلالة الكافر بأنها في نهاية الظلمة عقبها بقوله : { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } والمقصود من ذلك أن يعرف الإنسان أن ظهور الدلائل لا يفيد الإيمان وظلمة الطريق لا تمنع منه ، فإن الكل مربوط بخلق الله تعالى وهدايته وتكوينه ، وقال القاضي المراد بقوله : { ومن لم يجعل الله له نورا } أي في الدنيا بالألطاف { فما له من نور } أي لا يهتدي فيتحير ويحتمل { ومن لم يجعل الله له نورا } أي مخلصا في الآخرة وفوزا بالثواب { فما له من نور } والكلام عليه تزييفا وتقريرا معلوم .