محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ} (40)

ثم أشار تعالى إلى تمثيلهم بنوع آخر ، بقوله :

{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } .

{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } أي عميق كثير الماء { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } أي متراكم بعضه على بعض { مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } أي متكاثفة متراكمة . وهذا بيان لكمال شدة الظلمات { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ } أي وجعلها بمرأى منه ، قريبة من عينه لينظر إليها { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } أي : ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن ، فما له هداية ما . وهذا في مقابلة قوله تعالى في مثل المؤمنين { يهدي لنوره من يشاء } والجملة تقرير للتمثيل قبل ، وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم ، إذ لم يجاهدوا لنيل ذلك ، قال تعالى {[5843]} : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } .

لطيفة :

قال ابن كثير : هذان المثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار . كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين : ناريا ومائيا . وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم ، في سورة الرعد ، مثلين مائيا وناريا .

ثم قال : أما الأول فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم أصحاب الجهل المركب الذين يحسبون أنهم على شيء . فمثلهم كالسراب . والثاني لأصحاب الجهل البسيط وهم المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم ، الذين لا يعقلون . فلا يعرف أحدهم حال من يقوده ولا يدري أين يذهب . بل كما يقال في المثل للجاهل ( أين تذهب ؟ قال : معهم . قيل : فإلى أين يذهبون ؟ قال : لا أدري ) انتهى .

وما ذكره مما يحتمله اللفظ الكريم ، وليس بمتعين ، ومستنده في ذلك ما ذكره شيخه الإمام ابن القيم ، عليهما الرحمة والرضوان ، في ( الجيوش الإسلامية ) ولا بأس بإيرادها لما اشتملت عليه من بدائع الفوائد .

قال : انظر كيف انتظمت هذه الآيات طرائق بني آدم أتم انتظام ، واشتملت عليه أكمل اشتمال . فإن الناس قسمان : أهل الهدى والبصائر والذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى ، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قل نصيبه من العقل والسمع أمرها ، فيظنها شيئا له حاصل فينتفع به . وهي كسراب بقيعة الخ ، وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق ، أصحاب العلم النافع والعمل الصالح ، الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أخباره ، ولم يعارضوها بالشبهات . وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات . فلا هم في علمهم من أهل الخوض الخراصين {[5844]} : { الذين هم في غمرة ساهون } ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم ، الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون . أضاء لهم نور الوحي المبين . فرأوا في نوره أهل الظلمات في آرائهم يعمهون . وفي ضلالهم يتهوكون . وفي ريبهم يترددون . مغترين بظاهر السراب ، ممحلين مجدبين مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الحكمة وفصل الخطاب {[5845]} { إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغه } أوجبه لهم اتباع الهوى ، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان .

القسم الثاني – أهل الجهل والظلم الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به والظلم باتباع أهوائهم . الذين قال الله {[5846]} تعالى فيهم : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، ولقد جاءهم من ربهم الهدى } وهؤلاء قسمان : أحدهما ، الذين يحسبون أنهم على علم وهدى ، وهم أهل الجهل والضلال . فهؤلاء أهل الجهل المركب ، الذين يجهلون الحق ويعادونه ، ويعادون أهله ، وينصرون الباطل ويوالون أهله . وهم يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون . فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه ، بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمئان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا . وهكذا هؤلاء . أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان ، كما هو حال من أم السراب فلم يجده ماء . بل انضاف إلى ذلك انه وجد عنده أحكم الحاكمين واعدل العادلين ، سبحانه وتعالى . فحسب له ما عنده من العلم والعمل ، فوفاه إياه بمثاقيل الذر . وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه فجعله هباء منثورا . إذ لم يكن خالصا لوجهه ، ولا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علوما نافعة ، كذلك هباء منثورا فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه . و( السراب ) ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري و( القيعة ) و( القاع ) هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا واد . فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله ، بسراب يراه المسافر في شدة الحر ، فيؤمه ، فيخيب ظنه ويجده نارا تلظى . فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس واشتد بهم العطش . بدت لهم كالسراب . فيحسبونه ماء . فإذا أتوه وجدوا الله عنده ، فأخذتهم زبانية العذاب ، فعتلوهم إلى نار الجحيم فسقوا ماء حميما ، فقطع أمعاءهم . وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع ، والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله تعالى حميما سقاهم إياه . كما أن طعامهم من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة التي كانت في الدنيا كذلك لا تسمن ولا تغني من جوع وهؤلاء هم الذين قال الله {[5847]} فيهم : { قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } وهم الذين عنى بقوله {[5848]} : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } وهم الذين عنى بقوله {[5849]} تعالى : { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ، وما هم بخارجين من النار } .

والقسم الثاني من هذا الصنف ، أصحاب الظلمات . وهم المنغمسون في الجهل . بحيث قد أحاط بهم من كل وجه ، فهم بمنزلة الأنعام بل هم أضل سبيلا . فهؤلاء أعمالهم التي عملوها على غير بصيرة ، بل بمجرد التقليد واتباع الآباء من غير نور الله تعالى { كظلمات } جمع ظلمة وهي ظلمة الجهل وظلمة الكفر وظلمة الظلم واتباع الهوى وظلمة الشك والريب وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم . والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور . فإن المعرض عما بعث الله به تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق ، يتقلب في خمس ظلمات : قوله : ظلمة . وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره إلى ظلمة . وقلبه مظلم ووجهه مظلم وكلامه مظلم . ، وحاله مظلم . وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من النور ، جد في الهرب منه ، وكاد نوره يخطف بصره ، فهرب إلى ظلمات الآراء التي هي أنسب وأولى كما قيل :

خفافيش أعشاها النهار بضوئه *** ووافقها قطع من الليل مظلم

وقوله تعالى : { في بحر لجي } اللجي العميق . منسوب إلى لجة البحر وهو معظمه . وقوله تعالى { يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب } تصوير لحال المعرض عن وحيه . فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره ، بتلاطم أمواج ذلك البحر ، وأنها أمواج بعضها فوق بعض . والضمير الأول في قوله { يغشاه } راجع إلى البحر ، والضمير الثاني في قوله : { من فوقه } عائد إلى الموج . ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب . فهاهنا ظلمات : ظلمة البحر اللجي ، وظلمة الموج الذي فوقه ، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله { إذا أخرج } من في هذا البحر { يده لم يكد يراها } واختلف في معنى ذلك . فقال كثير من النحاة : هو نفي لمقاربة رؤيتها . وهو أبلغ من نفيه الرؤية . وإنه قد ينفى وقوع الشيء ولا تنفى مقاربته . فكأنه قال لم يقارب رؤيتها بوجه .

قال هؤلاء : ( كاد ) من أفعال المقاربة . لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات . فإذا قيل : كاد يفعل ؛ فهو إثبات مقاربة الفعل . وإذا قيل : لم يكد يفعل ، فهو نفي لمقاربة الفعل .

وقالت طائفة أخرى : بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد . وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر ، لأجل تلك الظلمات : قالوا : لأن ( كاد ) لها شأن ليس لغيرها من الأفعال . فإنها إذا أثبتت نفت . وإذا نفت أثبتت . فإذا قلت ( ما كدت أصل إليك ) فمعناه : وصلت إليك بعد الجهد والشدة . فهذا إثبات للوصول . وإذا قلت ( كاد زيد يقوم ) فهي نفي لقيامه . كما قال تعالى {[5850]} : { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } ومنه قوله تعالى {[5851]} : { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم } وأنشد بعضهم في ذلك لغزا :

أنحوي هذا العصر ! ما هي لفظة *** جرت في لساني جرهم وثمود ؟

إذا استعملت في صورة أثبتت *** وإن أثبتت قامت مقام جحود

وقالت فرقة ثالثة ، منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره . وإن استعمالها مثبتة ، يقتضي نفي خبرها . كقولك كاد زيد يقوم واستعمالها منفية يقتضي نفيه بطريق الأولى ، فهي عنده تنفي الخبر . سواء كانت منفية أو مثبتة . ( فلم يكد زيد يقوم ) أبلغ عنده . في النفي من ( لم يقم ) واحتج بأنها إذا نفيت – وهي من أفعال المقاربة – فقد نفيت مقاربة الفعل . وهو أبلغ من نفيه . وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها . وذلك يدل على عدم وقوعه . واعتذر عن مثل قوله تعالى {[5852]} : { فذبحوها وما كادوا يفعلون } وعن مثل قوله ( وصلت إليك وما كدت أصل ) و( سلمت وما كدت أسلم ) بأن هذا وارد على كلامين متباينين . أي : فعلت كذا بعد أن لم أكن مقاربا له ، فالأول يقتضي أنه لم يكن مقاربا له ، بل كان آيسا منه ، فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان .

وذهبت فرقة رابعة إلى الفرق بين ماضيهما ومستقبلهما . فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل . سواء كانت بصيغة الماضي أو المستقبل . وإن كانت في طرف النفي ، فإن كانت بصيغة المستقبل ، كانت لنفي الفعل ومقاربته . نحو قوله : { لم يكد يراها } وإن كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات نحو قوله : { فذبحوها وما كادوا يفعلون } فهذه أربعة طرق للنحاة في هذا اللفظة .

والصحيح أنها فعل يقتضي المقاربة . ولها حكم سائر الأفعال . ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها . فإنها لم توضع لنفيه . وإنما استفيد من لوازم معناها . فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل ، لم يكن واقعا ، فيكون منفيا باللزوم ، وأما إذا استعملت منفية ، فإن كانت في كلام واحد ، فهي لنفي المقاربة . كما إذا قلت ( لا يكاد البخيل يسود ) و( لا يكاد الجبان يفرح ) ونحو ذلك . وإن كانت في كلامين ، اقتضت وقوع الفعل ، بعد أن لم يكن مقاربا . كما قال ابن مالك : فهذا التحقيق في أمرها .

والمقصود إن قوله : { لم يكد يراها } إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة ، وهو الأظهر . فإذا كان لا يقارب رؤيتها ، فكيف يراها ؟ قال ذو الرمة :

إذا غير النأي المحبين لم يكد *** رسيس الهوى في حب مية يبرح

أي لم يقارب البراح . وهو الزوال ، فكيف يزول ؟ فشبه سبحانه أعمالهم أولا ، في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم ، بسراب خداع يخدع رائيه من بعيد . فإذا جاءه وجد عنده عكس ما أمله ورجاه وشبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها ، لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان ، بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج : الذي قد غشيه السحاب من فوقه . فيا له تشبيها ما أبدعه ! وأشد مطابقته بحال أهل البدع والضلال ! وحال من عبد الله سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه ! وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح ، ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم . وكل واحد من السراب والظلمات ، مثل لمجموع علومهم وأعمالهم . فهي سراب لا حاصل لها ، وظلمات لا نور فيها . وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه ، التي تلقاها من مشكاة النبوة . فإنها مثل الغيب الذي به حياة البلاد والعباد . ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة . ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع ، لأوليائه وأعدائه . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى .


[5843]:(29 العنكبوت 69).
[5844]:(5 الذاريات 11).
[5845]:(40 غافر 56).
[5846]:(53 النجم 23).
[5847]:(18 الكهف 103 و 104).
[5848]:(25 الفقرقان 33).
[5849]:(2 البقرة 167).
[5850]:(72 الجن 19).
[5851]:(68 القلم 51).
[5852]:(2 البقرة 71).