فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ} (40)

{ أَوْ كظلمات } معطوف على كسراب ، ضرب الله مثلاً لأعمال الكفار كما أنه تشبه السراب الموصوف بتلك الصفات ، فهي أيضاً تشبه الظلمات . قال الزجاج : أعلم الله سبحانه أن أعمال الكفار إن مثلت بما يوجد فمثلها كمثل السراب ، وإن مثلت بما يرى ، فهي كهذه الظلمات التي وصف . قال أيضاً : إن شئت مثل بالسراب ، وإن شئت مثل بهذه الظلمات ، فأو : للإباحة حسبما تقدّم من القول في { أَوْ كَصَيّبٍ } [ البقرة : 19 ] . قال الجرجاني : الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار ، والثانية في ذكر كفرهم ، ونسق الكفر على أعمالهم لأنه أيضاً من أعمالهم . قال القشيري : فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار ، وعند الجرجاني لكفر الكفار { فِي بَحْرٍ لُّجّيّ } اللجة معظم الماء ، والجمع لجج وهو : الذي لا يدرك لعمقه . ثم وصف سبحانه هذا البحر بصفة أخرى ، فقال { يغشاه مَوْجٌ } أي يعلو هذا البحر موج ، فيستره ويغطيه بالكلية ، ثم وصف هذا الموج بقوله { مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } أي من فوق هذا الموج موج ، ثم وصف الموج الثاني ، فقال : { مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب ، فيجتمع حينئذٍ عليهم خوف البحر وأمواجه ، والسحاب المرتفعة فوقه . وقيل إن المعنى : يغشاه موج من بعده موج ، فيكون الموج يتبع بعضه بعضاً حتى كأن بعضه فوق بعض ، والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه ، فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه زاد الخوف شدّة ، لأنها تستر النجوم التي يهتدي بها من في البحر ، ثم إذا أمطرت تلك السحاب ، وهبت الريح المعتادة في الغالب عند نزول المطر تكاثفت الهموم ، وترادفت الغموم ، وبلغ الأمر إلى الغاية التي ليس وراءها غاية ، ولهذا قال سبحانه : { ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } أي هي ظلمات متكاثفة مترادفة ، ففي هذه الجملة بيان لشدّة الأمر وتعاظمه ، وقرأ ابن محيصن ، والبزي : { سحاب ظلمات } بإضافة سحاب إلى ظلمات ، ووجه الإضافة : أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات ، فأضيف إليها لهذه الملابسة . وقرأ الباقون بالقطع ، والتنوين . ومن غرائب التفاسير : أنه سبحانه أراد بالظلمات : أعمال الكافر ، وبالبحر اللجيّ : قلبه ، وبالموج فوق الموج : ما يغشى قلبه من الجهل ، والشكّ ، والحيرة . والسحاب : الرين ، والختم ، والطبع على قلبه ، وهذا تفسير هو عن لغة العرب بمكانٍ بعيد . ثم بالغ سبحانه في هذه الظلمات المذكورة بقوله { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } وفاعل أخرج ضمير يعود على مقدّر دلّ عليه المقام : أي إذا أخرج الحاضر في هذه الظلمات أو من ابتلى بها . قال الزجاج وأبو عبيدة : المعنى لم يرها ولم يكد . وقال الفرّاء : إن كاد زائدة . والمعنى : إذا أخرج يده لم يرها ، كما تقول ما كدت أعرفه . وقال المبرد : يعني : لم يرها إلاّ من بعد الجهد . قال النحاس : أصح الأقوال في هذا أن المعنى : لم يقارب رؤيتها ، فإذن لم يرها رؤية بعيدة ، ولا قريبة ، وجملة : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } مقرّرة لما قبلها من كون أعمال الكفرة على تلك الصفة ، والمعنى : ومن لم يجعل الله له هداية ، فما له من هداية . قال الزجاج : ذلك في الدنيا ، والمعنى : من لم يهده الله لم يهتد ، وقيل : المعنى : من لم يجعل له نوراً يمشي به يوم القيامة ، فما له من نور يهتدي به إلى الجنة .

/خ46