تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ} (40)

39

40 - أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ . . .

لجى : أي : ذي لج ( بالضم ) ، واللج معظم الماء ، والمراد : بحر عميق الماء كثيره .

يغشاه : يغطيه .

لم يكد يراها : لم يقرب أن يراها ، فضلا عن أن يراها .

أي : مثل أعمالهم التي عملت على غير هدى ، مثل ظلمات مترادفة في بحر عميق ماؤه ، بعيد غوره ، يغطيه موج من فوقه موج من فوقه سحاب .

فالظلمات هي أعمال الكافرين ، والبحر اللجي قلوبهم التي غمرتها الحيرة والضلالة ، فلا تعقل ما في الكون من آيات ، ولا تسمع عظة الناصحين ، ولا تبصر حجج الله ، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض .

قال الحسن : الكافر له ظلمات ثلاث : ظلمة الاعتقاد ، وظلمة القول ، وظلمة العمل .

وقال ابن عباس : هي ظلمة قلبه وبصره وسمعه .

والخلاصة : أن الكافر لشدة إصراره على كفره ، تراكمت عليه الضلالات ، حتى إن أظهر الدلالات إذا ذكرت عنده لا يفهمها ، فقلبه مظلم ، في صدر مظلم ، في جسد مظلم .

ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ . . .

ظلمة البحر اللجي ، وظلمة الذي فوقه ، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله .

إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا . . .

أي : إذا أخرج يده – وهي أقرب ما يرى إليه – لم يقرب أن يراها ، فضلا عن أن يراها .

وقالت طائفة من النحاة : بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد ، وفي ذلك إثبات رؤيتها ، بعد أعظم العسر لأجل تلك الظلمات223 .

وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ .

أي : ومن لم يرزقه الله إيمانا وهدى من الضلالة ، فما له هداية من أحد .

جاء في ظلال القرآن :

والتعبير في الآيتين يرسم لحال الكافرين مشهدين عجيبين حافلين بالحركة والحياة :

في المشهد الأول : يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة ، يلتمع التماعا كاذبا فيتبعه صاحبه الظامئ ، وهو يتوقع الري غافلا عما ينتظره هناك . . . وفجأة يتحرك حركة عنيفة . . . فهذا السائر وراء السراب ، الظامئ الذي يتوقع الشراب ، الغافل عما ينتظره هناك . . . يصل فلا يجد ماء يرويه ، إنما يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال ، المرعبة التي تقطع الأوصال وتورث الخبال : ووجد الله عنده . الله الذي كفر به وجحده ، وخاصمه وعاداه ، وجده هنالك ينتظره ، ولو وجد في هذه المفاجأة خصما له من بني البشر لروعه ، وهو ذاهل غافل على غير استعداد ، فكيف وهو يجد الله القوي المنتقم الجبار .

فوفاه حسابه . . . هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والمفاجأة . والله سريع الحساب . تعقيب يتناسق مع المشهد الخاطف المرتاع .

وفي الشمهد الثاني : تطبق الظلمة بعد الالتماع الكاذب ، ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجى ، موج من فوقه موج من فوقه سحاب ، وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض ، حتى لتخرج يده أمام بصره فلا يراها لشدة الرعب والظلام .

إنه الكفر ، ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون ، وضلال لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى ، ومخافة لا أمن فيها ولا قرار .

وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ . ونور الله هدى في القلب ، وتفتح في البصيرة ، واتصال في الفطرة بنواميس الله في السماوات والأرض ، والتقاء بها على الله نور السماوات والأرض ، فمن لم يتصل بهذا النور فهو في ظلمة لا انكشاف لها ، وفي مخالفة لا أمن فيها ، وفي ضلال لا رجعة منه ، ونهاية العمل سراب ضائع ، يقود إلى الهلاك والعذاب ، لأنه لا عمل بغير عقيدة ، ولا صلاح بغير إيمان ، إن هدى الله هو الهدى ، وإن نور الله هو النور224 .

ويقول أبو الأعلى المودودي :

والله تعالى قد ضرب ههنا مثلين للكفار والمنافقين :

ففي المثل الأول : بين حال أولئك الذين قد يأتون بأعمال حسنة على كفرهم ونفاقهم ، ويقولون بالحياة الآخرة في جملة معتقداتهم ، ويظنون أن مجرد أعمالهم الظاهرة – مع كونهم لا يؤمنون بصدق قلوبهم ، ولا يتصفون بصفات أهل الإيمان ، ولا يتبعون الرسول في ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه – سوف تنقذهم من عذاب الله تعالى يوم القيامة . فالله تعالى بضربه هذا المثل يبين لهؤلاء أن هذه الأعمال الظاهرة التي يرجون عليها النفع في الآخرة ليست في حقيقتها إلا كسراب في الصحراء . فكما أن الظمآن يحسب السراب ماء في الصحراء ويقصده ليشرب منه ، كذلك إن هؤلاء الكفار والمنافقين يقطعون مسافة الحياة الدنيا لينتهوا إلى حياتهم الآخرة ، لا يعتمدون في ذلك إلا على أعمالهم الكاذبة ، ولكن كما أن الظمآن الذي يسرع إلى السراب في الصحراء ليشرب منه ولا يجده شيئا عندما ينتهي إليه ، كذلك فإن هؤلاء الكفار والمنافقين عندما يدخلون منزل الموت بعد حياتهم الدنيا ، لا يجدون فيه عملا من أعمالهم ينقذهم من بطش الله تعالى وعذابه ، بل سوف يجدون الله تعالى ليوفيهم حسابهم ، ويجازيهم على كفرهم ونفاقهم وسيئاتهم التي كانوا يعملونها في حياتهم الدنيا مختلطة ببعض الحسنات الظاهرة .

وفي المثال الثاني : وهو يبدأ من قوله : أو كظلمات . . . يبين الله تعالى حال جميع الكفار والمنافقين ، وفيهم من قد مر ذكرهم في المثال الأول . فالله تعالى يقول عن هؤلاء جميعا إنهم لا يقضون حياتهم من بدئها إلى آخرها إلا في حالة الجهل الكامل ، ولو كانوا حسب اعتبارات الدنيا كبار علمائها وأساتذتها الذين قد سبقوا سائر أهلها في الفنون والعلوم والاختراع . ولكن مثلهم – حسب بيان القرآن – كمثل رجل يعيش في مكان ليس فيه إلا الظلمة ، ولا ينفذ إليه من أي جوانبه شعاع واحد من النور . فيظن هؤلاء أن العلم إنما هو عبارة عن اختراع القنبلة الذرية أو قنبلة الهيدروجين أو الصاروخ الطائر إلى القمر ، وأن المهارة في الاقتصاديات والماليات والقانون والفلسفة هي العلم . . . ألا إن العلم الحقيقي هو شيء آخر ليسوا على أدنى إلمام بألفه وبائه ، فهم على الجهل المحض باعتبار هذا العلم ، حيث إن رجلا من البدو هو أعلم منهم إن كان سعيدا بمعرفة الحق .

وقوله تعالى : وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ . فيه يبين الله تعالى مقصوده الحقيقي الذي مهد له الكلام من قوله : الله نور السماوات والأرض . . . فلما لم يكن في الكون كله نور غير نور الله تعالى في حقيقة الواقع ، ولا تظهر فيه الحقائق إلا بنوره ، فهل يكون في غير الظلمة التامة من كان لم يجعل الله له نورا من عنده ؟ إن هدى الله هو الهدى ، وإن نور الله هو النور225 .