تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أو كظلمات في بحر لجي} يعني: في بحر عميق، والبحر إذا كان عميقا كان أشد لظلمته، يعني: بالظلمات الظلمة التي فيها الكافر، والبحر اللجي قلب الكافر {يغشاه موج} فوق الماء، ثم يذهب عنه ذلك الموج، ثم يغشاه موج آخر مكان الموج الأول، فذلك قوله عز وجل: {يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات} فهي ظلمة الموج، وظلمة الليل، وظلمة البحر والسحاب، يقول: وهذه ظلمات {بعضها فوق بعض} فهكذا الكافر قبله مظلم، في صدر مظلم، في جسد مظلم؛ لا يبصر نور الإيمان، كما أن صاحب البحر {إذا أخرج يده} في ظلمة الماء {لم يكد يراها}} يعني: لم يرها البتة، فذلك قوله عز وجل: {ومن لم يجعل الله له نورا} يعني: هدى الإيمان {فما له من نور}، يعني: من هدى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا مَثَل آخر ضربه الله لأعمال الكفار، يقول تعالى ذكره: ومَثَل أعمال هؤلاء الكفار في أنها عُمِلت على خطأ وفساد وضلالة وحيرة من عمالها فيها وعلى غير هدى، مَثَل "ظلمات في بحر لُجّي"، ونسب البحر إلى اللّجة، وصفا له بأنه عميق كثير الماء. ولجُة البحر: معظمه، "يَغْشاهُ مَوْج "يقول: يغشى البحر موج، "مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ": يقول: من فوق الموج موج آخر يغشاه، "مِنْ فَوْقِهِ سحَابٌ": يقول: من فوق الموج الثاني الذي يغشى الموج الأوّل سحاب، فجعل الظلمات مثلاً لأعمالهم، والبحر اللجي مثلاً لقلب الكافر، يقول: عَمِل بنية قلب قد غَمَره الجهل وتغشّته الضلالة والحَيرة كما يغشى هذا البحر اللّجيّ موج من فوقه موج من فوقه سحاب، فكذلك قلب هذا الكافر الذي مَثَل عمله مَثَل هذه الظلمات، يغشاه الجهل بالله، بأن الله ختم عليه فلا يعقل عن الله، وعلى سمعه فلا يسمع مواعظ الله، وجعل على بصره غشاوة فلا يبصر به حجج الله، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض...
وقوله: "إذَا أخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاها" يقول: إذا أخرج الناظر يده في هذه الظلمات، لم يكد يراها.
فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: لم يكد يراها، مع شدّة هذه الظلمة التي وصف، وقد علمت أن قول القائل: لم أكد أرى فلانا، إنما هو إثبات منه لنفسه رؤيته بعد جهد وشدّة، ومن دون الظلمات التي وصف في هذه الآية ما لا يرى الناظر يده إذا أخرجها فيه، فكيف فيها؟ قيل: في ذلك أقوال نذكرها، ثم نخبر بالصواب من ذلك؛
أحدها: أن يكون معنى الكلام: إذا أخرج يده رائيا لها لم يكد يراها أي لم يعرف من أين يراها.
والثاني: أن يكون معناه: إذا أخرج يده لم يرها، ويكون قوله: "لَمْ يَكَدْ" في دخوله في الكلام، نظير دخول الظنّ فيما هو يقين من الكلام، كقوله: "وَظَنّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ" ونحو ذلك.
والثالث: أن يكون قد رآها بعد بطء وجهد، كما يقول القائل لآخر: ما كدت أراك من الظلمة، وقد رآه، ولكن بعد إياس وشدة. وهذا القول الثالث أظهر معاني الكلمة من جهة ما تستعمل العرب «أكاد» في كلامها. والقول الآخر الذي قلنا إنه يتوجه إلى أنه بمعنى لم يرها، قول أوضح من جهة التفسير، وهو أخفى معانيه. وإنما حسُنَ ذلك في هذا الموضع، أعني أن يقول: لم يكد يراها مع شدة الظلمة التي ذكر، لأن ذلك مَثَل لا خبر عن كائن كان.
"وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُورا" يقول: من لم يرزقه الله إيمانا وهدى من الضلالة، ومعرفة بكتابه، "فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ" يقول: فما له من إيمان وهدى ومعرفة بكتابه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج" هذا مثل آخر ضرب الله أحوال الكافر "أو كظلمات": جسده، شبهه بظلمات؛ وذلك أن البحر إذا كان عميقا كان أشد ظلمة، فقال: "في بحر لجي" والبحر اللجي قلب الكافر "يغشاه موج" فوق الماء "من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض" فهي ظلمة الموج وظلمة الليل، وظلمة السحاب هذه "ظلمات بعضها فوق بعض" فكذلك الكافر: قلبه مظلم: في صدر مظلم في جسد مظلم؛ لا يبصر نور الإيمان كما أن صاحب البحر "إذا أخرج يده" في تلك الظلمة "لم يكد يراها" أي لم يرها البتة.
أو يكون ضرب المثل ظلمات ثلاث بظلمات أحوال، لا تزال تزداد ظلمة. كفره في كل وقت وفي كل حال بعمله الذي يعمله كالظلمات التي ذكر.
فكان كضرب المثل الذي سبق لأنوار أحوال المؤمن حين قال: "مثل نوره كمشكاة" (النور: 35) والنور جسده وصدره وقلبه.
ثم قوله] أو كظلمات [ليس هو حرف شك، ولكنه كأنه قال: إن ضربت مثل عمله بالسراب فمستقيم، وإن ضربته بالظلمات التي ذكرتها فمستقيم بأيهما ضربت فمستقيم وصحيح، لا أنه ذا، أو ذا.
ثم ذكر في أعمال الكفرة مثلين: أحدهما: السراب، والثاني: الظلمات.
فجائز أن يكون في المؤمن، أيضا مثلان: الظلمة التي ذكر في الكافر تقابل النور الذي ذكر في المؤمن، والسراب الذي ذكر الأعمال الكافرين يقابل ما ذكر من أعمال المؤمنين حين قال: "في بيوت أذن الله أن ترفع" إلى قوله: "والله يرزق من يشاء بغير حساب" (النور: 36-38)
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال المفسّرون: أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجّي قلبه، وبالموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الرَّين والختم والطبع على قلبه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} مبالغة في لم يرها؛ أي: لم يقرب أن يراها؛ فضلاً عن أن يراها... شبه أعمالهم أولاً في فوات نفعها وحضور ضررها بسراب لم يجده من خدعه من بعيد شيئاً، ولم يكفه خيبة وكمداً أن لم يجد شيئاً كغيره من السراب، حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى النار، ولا يقتل ظمأه بالماء. وشبهها ثانياً في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة، وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لجّ البحر والأمواج والسحاب، ثم قال: ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه، فهو في ظلمة الباطل لا نور له. وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات؛ لأن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل [الصالح]. أو كونهما مترقبين، ألا ترى إلى قوله: {والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وقوله: {وَيُضِلُّ الله الظالمين} [إبراهيم: 27]
وأما المثل الثاني فهو قوله: {أو كظلمات في بحر لجي} وفي لفظة (أو) ههنا وجوه. أحدها: اعلم أن الله تعالى بين أن أعمال الكفار إن كانت حسنة فمثلها السراب وإن كانت قبيحة فهي الظلمات.
وثانيها: تقدير الكلام أن أعمالهم إما كسراب بقيعة وذلك في الآخرة، وإما كظلمات في بحر وذلك في الدنيا.
وثالثها: الآية الأولى في ذكر أعمالهم وأنهم لا يتحصلون منها على شيء، والآية الثانية في ذكر عقائدهم فإنها تشبه الظلمات كما قال: {يخرجهم من الظلمات إلى النور} أي من الكفر إلى الإيمان...
وأما تقرير المثل فهو أن البحر اللجي يكون قعره مظلما جدا بسبب غمورة الماء، فإذا ترادفت عليه الأمواج ازدادت الظلمة فإذا كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى، فالواقع في قعر هذا البحر اللجي يكون في نهاية شدة الظلمة، ولما كانت العادة في اليد أنها من أقرب ما يراها ومن أبعد ما يظن أنه لا يراها فقال تعالى: {لم يكد يراها} وبين سبحانه بهذا البلوغ تلك الظلمة إلى أقصى النهايات... {لم يكد يراها} معناه لم يقارب الوقوع،ومعلوم أن الذي لم يقارب الوقوع لم يقع أيضا، وهذا القول هو المختار... لوجهين:
الأول: أن ما يكون أقل من هذه الظلمات فإنه لا يرى فيه شيء فكيف مع هذه الظلمات.
الثاني: أن المقصود من هذا التمثيل المبالغة في جهالة الكفار وذلك إنما يحصل إذا لم توجد الرؤية البتة مع هذه الظلمات.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
{يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب} تصوير لحال هذا المعرض عن وحيه سبحانه وتعالى. فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره بتلاطم أمواج ذلك البحر. وأنها أمواج بعضها فوق بعض...فهاهنا ظلمات: ظلمة البحر اللجي، وظلمة الموج الذي فوقه، وظلمه السحاب الذي فوق ذلك كله. إذا أخرج من في هذا البحر يده لم يكد يراها...
فقال كثير من النحاة: هو نفي لمقاربة رؤيتها. وهو أبلغ من نفيه الرؤية...
ذكر سبحانه للكافرين مثلين: مثلا بالسراب، ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان: أحدهما: من يظن انه على شيء، فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه، وهذه حال أهل الجهل، وأهل البدع والأهواء، الذين يظنون أنهم على هدى وعلم.فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة...النوع الثاني: أصحاب مثل الظلمات المتراكمة وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال، فتراكمت عليهم ظلمة الطبع، وظلمة النفوس وظلمة الجهل، حيث لم يعملوا بعلمهم، فصاروا جاهلين، وظلمة اتباع الغنى والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي، لا ساحل له، وقد غشيه موج، ومن فوق ذلك الموج موج، ومن فوقه سحاب مظلم، فهو في ظلمة البحر، وظلمة الموج وظلمة السحاب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين سبحانه بهذا المثال أنهم لم يصلوا إلى شيء غير التعب، المثمر للعطب، وكان هذا لا يفعله بنفسه عاقل، ضرب مثالاً آخر بين الحامل لهم على الوقوع في ممثول الأول، وهو السير بغير دليل، الموقع في خبط العشواء كالماشي في الظلام، فقال عاطفاً على {كسراب} قوله: {أو} للتخيير، أي أعمالهم لكونها لا منفعة لها كسراب، ولكونها خالية عن نور الحق {كظلمات} أو للتنويع، فإنها إن كانت حسنة الظاهر فكالسراب، أو قبيحة فكالظلمات، أو للتقسيم باعتبار وقتين كالظلمات في الدنيا والسراب في الآخرة {في بحر} هو مثال قلب الكافر {لجي} أي ذي لج هو اللج، إشارة إلى أنه عميق لا يدرك له قرار، لأن اللج معظم الماء، ويكون جمع لجة أيضاً، والأوفق هنا أن يكون منسوباً إلى الجمع، لأنه أهول، والمقام للتهويل، قال القزاز في ديوانه: ولجة البحر معروفة وهو المرضع الذي لا ترى منه أرضاً ولا جبلاً، وبحر لجي: واسع اللجة، وجمع اللجة لجج ولج. {يغشاه} أي يغطي هذا البحر ويعلوه، أو يلحق الكائن فيه {موج} وهو مثل ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، كائن {من فوقه} أي هذا الموج {موج} آخر {من فوقه} أي هذا الموج الثاني المركوم على الأول {سحاب} قد غطى النجوم، وهو مثال الرين والختم والطبع على القلب، فلا سماء تبصر ولا أرض.
ولما كان هذا أمراً مهولاً، أشار إلى هوله وتصويره بقوله: {ظلمات} أي من البحر والموجين والسحاب {بعضها}. ولما كان المراد استغراق الجهة، لم يثبت الجار فقال: {فوق بعض} متراكمة، فلذلك يبعد كل البعد أن ينفذ فيها بصر، ولذلك قال: {إذا أخرج} أي الكائن في هذا البحر بدلالة المعنى وإن لم يجر له ذكر {يده} وهي أقرب شيء إليه {لم يكد} أي الكائن فيه {يراها} أي يقرب من ذلك فضلاً عن أن يكون، لأن الله قد ستر عنه كل نور بهذه الظلمات المتكاثفة، وهو مثال لعمله وأنه عدم لما تقدم من أن العدم كله ظلمة، فلا عمل له يكون شيئاً ولا يقرب من ذلك لأنه لا أهلية له بوجه {ومن لم يجعل الله} أي الملك الأعظم {له نوراً} من الأنوار، وهو قوة الإيجاد والإظهار {فما له من نور} أصلاً، لأنه سبحانه يستر نوره وإن كان ملء السماوات والأرض عمن يشاء بحجب الأهوية، لأنه قادر على ما يريد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وهذا التمثيل صالح لاعتبار التفريق في تشبيه أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها؛ فالضلالات تشبه الظلمات، والأعمال التي اقتحمها الكافر لقصد التقرب بها تشبه البحر، وما يخالط أعماله الحسنة من الأعمال الباطلة كالبحيرة، والسائبة يشبه الموج في تخليطه العمل الحسن وتخلله فيه وهو الموج الأول. وما يرد على ذلك من أعمال الكفر كالذبح للأصنام يشبه الموج الغامر الآتي على جميع ذلك بالتخلل والإفساد وهو الموج الثاني، وما يحف اعتقاده من الحيرة في تمييز الحسن من العبث ومن القبيح يشبه السحاب الذي يغشى ما بقي في السماء من بصيص أنوار النجوم، وتطلّبُه الانتفاع من عمله يشبه إخراج الماخر يده لإصلاح أمر سفينته أو تناول ما يحتاجه فلا يرى يده بله الشيء الذي يريد تناوله.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً} يفتح به سبل الحق أمامه ويهديه إليها، مما إذا سار فيها اهتدى إلى مواقع النور، وإذا انحرف عنها واتّبع طريقاً آخر في خط الظلمات، فإن الله لا يعطيه نوراً جديداً من مواقع غيبه، وذلك في ما جرت به حكمته من أنه يفتح لعباده آفاق المعرفة ومواقع الهدى ويدلهم عليها، ويقودهم إليها، فإذا أغلقوا ذلك على أنفسهم بالتمرّد والعصيان، لم يفتحها لهم من جديد.. وهكذا ينسب الله الحرمان إليه، باعتبار أنه تركهم للظلمات، فضاعوا في غياهبها، لأن من لم يجعل الله له نوراً {فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} لأن الله وحده هو من يهب النور لعباده في مواقعه الحسية والمعنوية، وليس هناك نور لدى غيره..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أجل، إنّ النور الحقيقي في حياة البشر هو نور الإِيمان فقط، ومن دونه تَسودُ الحياةُ الظلمات، ونور الإِيمان هذا إنّما هو لطفٌ من عندِ الله "ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور". ولفهم عمق هذا المثال لابدّ من الاهتمام بمعنى كلمة «اللجّيّ» وهو البحر الواسع والعميق...
ولَوْ تصوَّرتُم بحراً هائجاً عميقاً، ومع علمنا أنَّ نور الشمسِ أقْوى أنواعِ النور، لكنّه لا ينفذ إلاّ بمقدار مُعيَّن في البحر، وآخر حدود نفوذه في العمق لا يتجاوز سبعمائة متر، حيث يسودُ الظلام الدائم أعماق البحار والمحيطات. كما نعلم أَنّ الماء إذا كان هادئاً يعكسُ النورَ بشكل أفضل، بينما تكسر أمواج البحر أشعة الشمس، ولا تسمح لها بالنفوذ إلى العُمقِ إلاّ بِمقدارِ أقل. وإذا أضفنا إلى ذلك مسألة مرور سحاب داكن اللون فوق هذا البحر الهائج، فإنّ الظلام يَزْدادُ عُتمة وسواداً بشكل كبير. إن الظلام في عمق البحر من جهة، وظلمة الأمواج الهائجة من جهة أُخرى، وظلمة الغيوم السوداء من جهة ثالثة، ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض. وفي مثل هذا الظلام لا يمكنُ رؤية أيّ شيء، مهما اقتَرب منّا، حتّى لو وضع الإنسان الشيء نُصبَ عينيه لما استطاع مشاهدته. وهكذا حال الكفار الذين حرموا من نور الإِيمان فابتلوا بهذه الظلمات، خلافاً للمؤمنين الذين نوّر الله قلوبهم وطريقهم وهم مصداق (نور على نور)...
وعلى كلّ حال، فيمكننا أن نصل إلى استنتاج عام من الآيتين السابقتين. فقد شبّهت الآية أعمال غير المؤمنين بنور كاذب كسراب يراه ظمآن في صحراء جافة، لا يروي هذا السراب العطاشى أبداً، وإنّما يزيد في سعيهم للحصول على الماء فيرهقهم دون نتيجة تذكر. ثمّ ينتقل القرآن من الحديث عن هذا النور الكاذب، الذي هو عبارة عن أعمال المنافقين إلى باطن هذه الأعمال، الباطن المظلم والمخيف والموحش حيث تتعطل فيه حواسٌ الإنسان، وتظلم عليه الدنيا حتى لا يرى نفسه، فكيف يمكنه رؤية الآخرين.