ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد ، الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار وفي{[5977]} الحروب : لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم . فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ } أي : عن إخوانهم { إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ } أي : سافروا للتجارة ونحوها {[5978]} { أَوْ كَانُوا غُزًّى } أي : في الغزو { لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا } أي : في البلد { مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا }{[5979]} أي : ما ماتوا في السفر ولا قتلوا في الغزو .
وقوله : { لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتْلهم{[5980]} ثم قال تعالى ردا عليهم : { وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : بيده الخلق وإليه يرجع الأمر ، ولا يحيا أحد ولا يموت إلا بمشيئته وقدره ، ولا يُزَاد في عُمُر أحد ولا يُنْقَص منه إلا بقضائه وقدره { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : وعلمه وبصره نافذ في جميع خلقه ، لا يخفى عليه من أمورهم شيء .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } يعني المنافقين . { وقالوا لإخوانهم } لأجلهم وفيهم ، ومعنى أخوتهم اتفاقهم في النسب أو المذهب { إذا ضربوا في الأرض } إذا سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها ، وكان حقه إذ لقوله قالوا لكنه جاء على حكاية الحال الماضية { أو كانوا غزى } جمع غاز كعاف وعفى . { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } مفعول قالوا وهو يدل على إن إخوانهم لم يكونوا مخاطبين به . { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } متعلق ب{ قالوا } على إن اللام لام العاقبة مثلها في { ليكون لهم عدوا وحزنا } ، أو لا تكونوا أي لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول والاعتقاد ليجعله حسرة في قلوبهم خاصة ، فذلك إشارة إلى ما دل عليه قولهم من الاعتقاد . وقيل إلى ما دل عليه النهي أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ، فإن مخالفتهم ومضادتهم مما يغمهم . { والله يحيى ويميت } ردا لقولهم أي هو المؤثر في الحياة والممات لا الإقامة والسفر فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي ويميت المقيم والقاعد . { والله بما تعملون بصير } تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم . وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على أنه وعيد للذين كفروا .
نهى الله تعالى المؤمنين عن الكون مثل الكفار والمنافقين في هذا المعتقد الفاسد ، الذي هو أن من سافر في تجارة ونحوها ومن قاتل فقتل لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض فيه نفسه للسفر أو للقتال ، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين ، وهو نحو منه ، وقوله تعالى : { لإخوانهم } هي أخوة نسب ، لأن قتلى -أحد- كانوا من الأنصار ، أكثرهم من الخزرج ، ولم يكن فيهم من المهاجرين إلى أربعة ، وصرح بهذه المقالة فيما ذكر السدي ومجاهد وغيرهما ، عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه ، وقيل : بل قالها جميع المنافقين ، ودخلت { إذا } في هذه الآية وهي حرف استقبال ، من حيث { الذين } اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي ، ومن يقول في المستقبل ، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان ، ويطرد النهي للمؤمنين فيها ، فوضعت { إذا } لتدل على اطراد الأمر في مستقبل الزمان ، وهذه فائدة وضع المستقبل موضع الماضي ، كما قال تعالى : { والله يدعو إلى دار السلام }{[3645]} إلى نحوها من الآيات وكما قالت :
وفينا نبي يعلم ما في غد{[3646]} . . .
كما أن فائدة وضعهم الماضي موضع المستقبل للدلالة على ثبوت الأمر ، لأن صيغة الماضي متحققة الوقوع ، فمن ذلك قول الشاعر :
وَإنّي لآتيكم تَشَكُّرَ ما مَضَى . . . مِنَ الأَمْرِ واسْتيجَاب مَا كَانَ في غَدِ{[3647]}
أَصْبَحْتُ لا أَمْلِكُ السلاحَ وَلاَ . . . أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إنْ نَفَرَا
و «الضرب في الأرض » : الإبعاد في السير ، ومنه ضرب الدهر ضربانه : إذا بعدت المدة ، وضرب الأرض : هو الذهاب فيها لحاجة الإنسان خاصة بسقوط «في » وقال السدي وغيره : في هذه الآية ، الضرب في الأرض : السير في التجارة ، وقال ابن إسحاق وغيره : بل هو السير في جميع طاعات الله ورسوله ، والضرب في الأرض يعم القولين ، و { غزى } : جمع غاز ، وزنه -فعل- بضم الفاء وشد العين المفتوحة كشاهد وشهد وقائل وقول ، وينشد بيت رؤبة : [ الرجز ]
فالآنَ قَدْ نَهْنَهَني تَنَهْنُهِي . . . وَقَوْلُ حِلْمٍ لَيْسَ بِالْمُسَفَّهِ
( وقول ، الاده فلاده ) {[3648]} . . . يريد إن لم تتب الآن فلا تتوب أبداً ، وهو مثل معناه : إن لم تكن كذا فلا تكن كذا ، وقد روي ، وقولهم إلا ده فلاده ، قال سيبويه وغيره : لا يدخل { غزى } الجر ولا الرفع ، وقرأته عامة القراء بتشديد الزاي ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري ، «غزى » مخففة الزاي ، ووجهه إما أن يريد غزاة ، فحذف الهاء إخلاداً إلى لغة من يقول «غزّى » بالتشديد ، وهذ الحرف كثير في كلامهم ، قول الشاعر يمدح الكسائيّ{[3649]} : [ الطويل ]
أَبى الذَّمُّ أَخْلاَقَ الكِسَائيّ وانتمى . . . بهِ الْمَجْدُ أخْلاق الأُبُوِّ السوابقِ
يريد الأبوة جمع أب ، كما أن العمومة جمع عم ، والبنوة جمع ابن وقد قالوا : ابن وبنو ، وتحتمل قراءتهما أن تكون تخفيفاً للزاي من «غزى » ، ونظيره قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه
{ وكذبوا بآياتنا كذاباً }{[3650]} في قول من قال : إنه تخفيف ، وقد قيل : إنه مصدر جرى على غير المصدر ، وقرأ الحسن «وما قتّلوا » مشددة التاء ، وقوله تعالى : { ليجعل الله ذلك } قال مجاهد : معناه يحزنهم قوله ولا ينفعهم .
قال القاضي : فالإشارة في ذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم ، جعل الله ذلك حسرة ، لأن الذي يتقين أن كل موت وقتل فبأجل سابق ، يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه ، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت ، يتحسر ويتلهف ، وعلى هذا التأويل مشى المتأولون ، وهو أظهر ما في الآية ، وقال قوم : الإشارة بذلك إلى انتهاء المؤمنين ومخالفتهم الكافرين في هذا المعتقد ، فيكون خلافهم لهم حسرة في قلوبهم ، وقال قوم : الإشارة بذلك إلى نفس نهي الله تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد لأنهم إذا رأوا أن الله تعالى قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم ، ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معاً ، فتأمله «والحسرة » : التلهف على الشيء والغم به ، ثم أخبر تعالى خبراً جزماً أنه الذي { يحيى ويميت } بقضاء حتم ، لا كما يعتقد هؤلاء ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : «والله بما يعملون » بالياء ، فهذا وعيد للمنافقين ، وقرأ الباقون «تعملون » بالتاء على مخاطبة المؤمنين ، فهذا توكيد للنهي في قوله { لا تكونوا } ووعيد لمن خالفه ووعد لمن امتثله .