يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور ، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه ، وكما اختصه بذلك ، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء .
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عمْران أبو العوام ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة - يعني ابن الأسقع - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صُحُف إبراهيم في أول ليلة من رمضان . وأنزلت التوراة لسِتٍّ مَضَين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عَشَرَةَ خلت من رمضان{[3186]} وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " {[3187]} .
وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه : أن الزبور أنزل {[3188]} لثنتَي عشرة [ ليلة ]{[3189]} خلت من رمضان ، والإنجيل لثماني عشرة ، والباقي كما تقدم . رواه ابن مَردُويه .
أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل - فنزل كل منها{[3190]} على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة ، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، وكان ذلك في شهر رمضان ، في ليلة القدر منه ، كما قال تعالى : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] . وقال : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] ، ثم نزل بعدُ مفرّقًا{[3191]} بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم . هكذا روي من غير وجه ، عن ابن عباس ، كما قال إسرائيل ، عن السّدي ، عن محمد بن أبي المجالد عن مِقْسَم ، عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود ، فقال : وقع{[3192]} في قلبي الشك من قول الله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } وقوله : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } وقوله : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } وقد{[3193]} أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع . فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان ، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل {[3194]} على مواقع النجوم ترتيلا{[3195]} في الشهور والأيام . رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه ، وهذا لفظه .
وفي رواية سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العِزَّة ، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس .
وفي رواية عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة ، وكان الله يُحْدثُ لنبيه ما يشاء ، ولا يجيء المشركون بمثَل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه ، وذلك قوله : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 32 ، 33 ] .
[ قال فخر الدين : ويحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثله من اللوح إلى سماء الدنيا ، وتوقف ، هل هذا أولى أو الأول ؟ وهذا الذي جعله احتمالا نقله القرطبي عن مقاتل بن حيان ، وحكى الإجماع على أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وحكى الرازي عن سفيان بن عيينة وغيره أن المراد بقوله : { الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أي : في فضله أو وجوب صومه ، وهذا غريب جدا ]{[3196]} .
وقوله : { هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه { وَبَيِّنَاتٍ } أي : ودلائل وحُجَج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبَّرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال ، والرشد المخالف للغي ، ومفرقًا بين الحق والباطل ، والحلال ، والحرام .
وقد روي عن بعض السلف أنه كَره أن يقال : إلا " شهر رمضان " ولا يقال : " رمضان " ؛ قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بكار بن الريَّان ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القُرَظي ، وسعيد - هو المقْبُري - عن أبي هريرة ، قال : لا تقولوا : رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا : شهر رمضان .
قال{[3197]} ابن أبي حاتم : وقد روي عن مجاهد ، ومحمد بن كعب نحو ذلك ، ورَخَّص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت .
قلت : أبو معشر هو نَجِيح بن عبد الرحمن المدني إمام [ في ]{[3198]} المغازي ، والسير ، ولكن فيه ضعف ، وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا ، عن أبي هريرة ، وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي{[3199]} - وهو جدير بالإنكار - فإنه متروك ، وقد وهم في رفع هذا الحديث ، وقد انتصر البخاري ، رحمه الله ، في كتابه لهذا فقال : " باب يقال{[3200]} رمضان " {[3201]} وساق أحاديث في ذلك منها : " من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه " ونحو ذلك .
وقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا إيجاب حَتْمٍ على من شهد استهلال الشهر - أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان ، وهو صحيح في بدنه - أن يصوم لا محالة . ونَسَخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحًا مقيما أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم ، كما تقدم بيانه . ولما حتَّم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار ، بشرط القضاء فقال : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } معناه : ومن كان به مرض في بدنه يَشُقّ عليه الصيام معه ، أو يؤذيه{[3202]} أو كان على سفر أي في حال سفر - فله أن يفطر ، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام ؛ ولهذا قال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } أي : إنما رخَّصَ لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر ، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح ، تيسيرًا عليكم ورحمة بكم .
وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية :
إحداها : أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه ، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه ، لقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر ، وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المُحَلى ، عن جماعة من الصحابة والتابعين . وفيما حكاه عنهم نظر ، والله أعلم . فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرَجَ في شهر رمضان لغزوة الفتح ، فسار{[3203]} حتى بلغ الكَديد ، ثم أفطر ، وأمر الناس بالفطر . أخرجه صاحبا الصحيح{[3204]} .
الثانية : ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر ، لقوله : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } والصحيح قول الجمهور ، أن الأمر في ذلك على التخيير ، وليس بحَتْم ؛ لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان . قال : " فَمنا الصائم ومنا المفطر ، فلم يعب الصائمُ على المفطر ، ولا المفطر على الصائم{[3205]} " . فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم {[3206]} الصيام ، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائمًا ، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [ قال ]{[3207]} خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في شهر رمضان ]{[3208]} في حَرٍّ شديد ، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه [ من شدة الحر ]{[3209]} وما فينا صائم إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة{[3210]} .
الثالثة : قالت طائفة منهم الشافعي : الصيام في السفر أفضل من الإفطار ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، وقالت طائفة : بل الإفطار أفضل ، أخذا بالرخصة ، ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن الصوم في السفر ، فقال : " من أفطر فحَسَن ، ومن صام فلا جناح عليه " {[3211]} . وقال في حديث آخر :
" عليكم برخصة الله التي رخص لكم " {[3212]} وقالت طائفة : هما سواء لحديث عائشة : أن حَمْرة بن عمرو الأسلمي قال : يا رسول الله ، إني كثير الصيام ، أفأصوم في السفر ؟ فقال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " . وهو في الصحيحين{[3213]} . وقيل : إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظُلِّلَ عليه ، فقال : " ما هذا ؟ " قالوا : صائم ، فقال : " ليس من البر الصيام في السفر " . أخرجاه{[3214]} . فأما إن رغب عن السنة ، ورأى أن الفطر مكروه إليه ، فهذا يتعين عليه الإفطار ، ويحرم عليه الصيام ، والحالة هذه ، لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره ، عن ابن عمر وجابر ، وغيرهما : من لم يقبل رُخْصَةَ الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة{[3215]} .
الرابعة : القضاء ، هل يجب متتابعًا أو يجوز فيه التفريق ؟ فيه قولان : أحدهما : أنه يجب التتابع ؛ لأن القضاء يحكي الأداء . والثاني : لا يجب التتابع ، بل إن شاء فَرّق ، وإن شاء تابع . وهذا قول جُمهور السلف والخلف ، وعليه ثبتت الدلائل{[3216]} ؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر ، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدَّةَ ما أفطر . ولهذا قال تعالى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ثم قال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا ابن{[3217]} هلال ، عن حميد بن هلال العدوي ، عن أبي قتادة ، عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره " {[3218]} .
وقال أحمد أيضًا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عاصم بن هلال ، حدثنا غاضرة بن عُرْوة الفُقَيْمي ، حدثني أبي عُرْوَة ، قال : كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج رَجلا{[3219]} يَقْطُرُ رأسه من وضوء أو غسل ، فصلى ، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه : علينا حرج في كذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن دين الله في يسر " ثلاثًا يقولها{[3220]} .
ورواه الإمام أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن إبراهيم ، عن عاصم بن هلال ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة قال : حدثنا أبو التيّاح ، سمعت أنس بن مالك يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يسروا ، ولا تعسروا ، وسكِّنُوا ولا تُنَفِّروا " . أخرجاه في الصحيحين{[3221]} . وفي الصحيحين أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن : " بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا " . وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت بالحنيفيَّة السمحة " {[3222]} .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره : حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يحيى ابن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا أبو مسعود الجُرَيري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن مِحْجَن بن الأدرع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره{[3223]} ساعة ، فقال : " أتراه يصلي صادقًا ؟ " قال : قلت : يا رسول الله ، هذا أكثر أهل المدينة صلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تُسْمِعْه فَتُهلِكَه " . وقال : " إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليُسْر ، ولم يرد بهم العُسْر " {[3224]} .
ومعنى قوله : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } أي : إنما أرْخَصَ لكم في الإفطار للمرض{[3225]} والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر ، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدّة شهركم .
وقوله : { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أي : ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم ، كما قال : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } [ البقرة : 200 ] وقال : [ { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } ] {[3226]} [ النساء : 103 ] ، { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ] وقال : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ ق : 39 ، 40 ] ؛ ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح ، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات .
وقال ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير ؛ ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر ؛ لظاهر الأمر في قوله { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وفي مقابلَته مذهبُ أبي حنيفة - رحمه الله - أنه لا يُشْرَع التكبير في عيد الفطر . والباقون على استحبابه ، على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم .
وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه ، وترك محارمه ، وحفظ حدوده ، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك .
{ شهر رمضان } مبتدأ خبره ما بعده ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم شهر رمضان ، أو بدل من الصيام على حذف المضاف ، أي كتب عليكم الصيام صيام شهر رمضان . وقرئ بالنصب على إضمار صوموا ، أو على أنه مفعول ، { وأن تصوموا } وفيه ضعف ، أو بدل من أيام معدودات . والشهر : من الشهرة ، ورمضان : مصدر رمض إذا احترق ؛ فأضيف إليه الشهر وجعل علما ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون ، كما منع دأية في ابن دأية علما للغراب للعلمية والتأنيث ، وقوله عليه الصلاة والسلام " من صام رمضان " فعلى حذف المضاف لأمن الالتباس ، وإنما سموه بذلك إما لارتماضهم فيه من حر الجوع والعطش ، أو لارتماض الذنوب فيه ، أو لوقوعه أيام رمض الحر حين ما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة . { الذي أنزل فيه القرآن } أي ابتدئ فيه إنزاله ، وكان ذلك ليلة القدر ، أو أنزل فيه جملة إلى سماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض ، أو أنزل في شأنه القرآن وهو قوله : { كتب عليكم الصيام } . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " نزلت صحف إبراهيم عليه السلام أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين " والموصول بصلته خبر المبتدأ أو صفته والخبر فمن شهد ، والفاء لوصف المبتدأ بما تضمن معنى الشرط . وفيه إشعار بأن الإنزال فيه سبب اختصاصه بوجوب الصوم . { هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } حالان من القرآن ، أي أنزل وهو هداية للناس بإعجازه وآيات واضحات مما يهدي إلى الحق ، ويفرق بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والأحكام . { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم فيه ، والأصل فمن شهد فيه فليصم فيه ، لكن وضع المظهر موضع المضمر الأول للتعظيم ، ونصب على الظرف وحذف الجار ونصب الضمير الثاني على الاتساع . وقيل : { فمن شهد منكم } هلال الشهر فليصمه ، على أنه مفعول به كقولك : شهدت الجمعة أي صلاتها فيكون { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } مخصصا له ، لأن المسافر والمريض ممن شهد الشهر ولعل تكريره لذلك ، أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه . { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } أي يريد أن ييسر عليكم ولا يعسر ، فلذلك أباح الفطر في السفر والمرض . { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } علل لفعل محذوف دل عليه ما سبق ، أي وشرع جملة ما ذكر من أمر الشاهد يصوم الشهر والمرخص بالقضاء ومراعاة عدة ما أفطر فيه ، والترخيص { لتكملوا العدة } إلى آخرها على سبيل اللف ، فإن قوله { ولتكملوا العدة } علة الأمر بمراعاة العدة ، { ولتكبروا الله } علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته ، { ولعلكم تشكرون } علة الترخيص والتيسير . أو الأفعال كل لفعله ، أو معطوفة على علة مقدرة مثل ليسهل عليكم ، أو لتعلموا ما تعلمون ولتكملوا العدة ، ويجوز أن يعطف على اليسر أي ويريد بكم لتكملوا كقوله تعالى : { يريدون ليطفئوا نور الله } . والمعنى بالتكبير تعظيم الله بالحمد والثناء عليه ، ولذلك عدي بعلى . وقيل تكبير يوم الفطر ، وقيل التكبير عند الإهلال وما يحتمل المصدر والخبر ، أي الذي هداكم إليه ، وعن عاصم برواية أبي بكر { ولتكملوا } بالتشديد .