ثم قال : { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } أي : يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة ، ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين لله عز وجل .
وقوله : { وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } أي : إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ غير موقن مصدق .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَحَسْرَتَا عَلَىَ مَا فَرّطَتُ فِي جَنبِ اللّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وأنيبوا إلى ربكم ، وأسلموا له أنْ تَقُولَ نَفْسٌ بمعنى لئلا تقول نفس : يا حَسْرَتا على ما فَرّطْتُ في جَنْبِ اللّهِ ، وهو نظير قوله : وألْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسي أنْ تَمِيدَ بِكُمْ بمعنى : أن لا تميد بكم ، فأن ، إذ كان ذلك معناه ، في موضع نصب .
وقولهّ : يا حَسْرَتا يعني أن تقول : يا ندما ، كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله : يا حَسْرَتا قال : الندامة .
والألف في قوله يا حَسْرَتا هي كناية المتكلم ، وإنما أريد : يا حسرتي ولكن العرب تحوّل الياء في كناية اسم المتكلم في الاستغاثة ألفا ، فتقول : يا ويلتا ، ويا ندما ، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء ، وربما قيل : يا حسرة على العباد ، كما قيل : يا لهف ، ويا لهفا عليه وذكر الفراء أن أبا ثَرْوانَ أنشده :
تَزُورُونَها وَلا أزُورُ نِساءَكُمْ *** أَلَهْفِ لأَوْلادِ الإماء الحَوَاطِبِ
خفضا كما يخفض في النداء إذا أضافه المتكلم إلى نفسه ، وربما أدخلوا الهاء بعد هذه الألف ، فيخفضونها أحيانا ، ويرفعونها أحيانا وذكر الفراء أن بعض بني أسد أنشد :
يا رَبّ يا رَبّاهِ إيّاكَ أَسَلْ *** عَفْرَاءَ يا رَبّاهُ مِنْ قَبْلِ الأجَلْ
خفضا ، قال : والخفض أكثر في كلامهم ، إلا في قولهم : يا هَناه ، ويا هَنْتاه ، فإن الرفع فيها أكثر من الخفض ، لأنه كثير في الكلام ، حتى صار كأنه حرف واحد .
وقوله : على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ يقول : على ما ضيعت من العمل بما أمرني الله به ، وقصرت في الدنيا في طاعة الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله : يا حَسْرَتَا على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ يقول : في أمر الله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ قال : في أمر الله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ قال : تركت من أمر الله .
وقوله : وَإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ يقول : وإن كنت لمن المستهزئين بأمر الله وكتابه ورسوله والمؤمنين به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ وَإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ قال : فلم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل يسخر بأهل طاعة الله ، قال : هذا قول صنف منهم .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ يقول : من المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالكتاب ، وبما جاء به .
{ أن } في هذه الآية مفعول من أجله أي أنيبوا وأسلموا من أجل أن تقول .
وقرأ جمهور الناس : «يا حسرتى » والأصل «يا حسرتي » ، ومن العرب من يرد ياء الإضافة ألفاً فيقول : يا غلاماً ويا جاراً{[9916]} . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «يا حسرتايَ » بفتح الياء ، ورويت عنه بسكون الياء ، قال أبو الفتح : جمع بين العوض والمعوض منه{[9917]} . وروى ابن جماز عن أبي جعفر : «يا حسرتي » بكسر التاء وسكون الياء . قال سيبويه : ومعنى نداء الحسرة والويل ، أي هذا وقتك وزمانك فاحضري . و : { فرطت } معناه : قصرت في اللازم .
وقوله تعالى : { في جنب الله } معناه : في مقاصدي إلى الله وفي جهة طاعته ، أي في تضييع شريعته والإيمان به . والجنب : يعبر به عن هذا ونحوه . ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
أفي جنب بكر قطعتني ملامة . . . لعمري لقد طالت ملامتها بيا{[9918]}
الناس جنب والأمير جنب . . . {[9919]}
وقال مجاهد : { في جنب الله } أي في أمر الله . وقول الكافر : { وإن كنت لمن الساخرين } ندامة على استهزائه بأمر الله تعالى . والسخر : الاستهزاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.