وقوله : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة { فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ } أي : خرجوا وتواروا عنك { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي : استسروا ليلا فيما بينهم بغير ما أظهروه . فقال تعالى : { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي : يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين ، الذين هم موكلون بالعباد . يعلمون ما يفعلون . والمعنى في هذا التهديد ، أنه تعالى أخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم ، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول وعصيانه ، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة ، وسيجزيهم على ذلك . كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ]{[7926]} } [ النور : 47 ] .
وقوله : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : اصفح عنهم واحلم عليهم{[7927]} ولا تؤاخذهم ، ولا تكشف أمورهم للناس ، ولا تَخَفْ منهم أيضا { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } أي : كفى به{[7928]} وليًّا وناصرًا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه .
{ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيّتَ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه بقوله : { وَيَقُولُونَ طاعَةٌ } يعني : الفريق الذي أخبر الله عنهم أنهم لما كتب عليهم القتال ، خشوا الناس كخشية الله وأشدّ خشية ، يقولون لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر : أمرك طاعة ، ولك منا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه ! { فَإذَا بَرزُوا مِنْ عِنْدِكَ } يقول : فإذا خرجوا من عندك يا محمد { بيّتَ طائفةٌ منهمْ غيرَ الذِي تقولُ } يعني بذلك جلّ ثناؤه : غيّر جماعة منهم ليلاً الذي تقول لهم . وكلّ عَمل عُمل ليلاً فقد بُيّت ، ومن ذلك بَيّتَ العدوّ وهو الوقوع بهم ليلاً ، ومنه قول عبيدة ابن همام :
أتَوْنِي فَلَمْ أرْضَ ما بَيّتُوا ***وكانُوا أتَوْنِي بِشَيْءٍ نُكُرْ
لاِنْكِحَ أيّمَهُمْ مُنْذِرا ***وَهلْ يُنْكِحُ العَبْدَ حُرّ لِحُرّ
يعني بقوله : «فلم أرض ما بيتوا ليلاً » : أي ما أبرموه ليلاً وعزموا عليه . ومنه قول النمر بن تولب العكليّ :
هَبّتْ لِتَعْذُلَنِي بلَيْلٍ اسْمَعِ ! ***سَفَها تُبَيّتُكِ المَلامةُ فاهْجَعي !
يقول الله جلّ ثناؤه : { وَاللّه يَكْتُبُ ما يُبَيّتُونَ } يعني بذلك جلّ ثناؤه : والله يكتب ما يغيرون من قولك ليلاً في كتب أعمالهم التي تكتبها حفظته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ } قال : يغيرون ما عهد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا يوسف بن خالد ، قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ } قال : غيّر أولئك ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ } قال : غيّر أولئك ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيّتُونَ } قال : هؤلاء المنافقون الذين يقولون إذا حضروا النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأمر قالوا : طاعة ، فإذا خرجوا من عنده غيّرت طائفة منهم ما يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم . { وَاللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيّتُونَ } يقول : ما يقولون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : قوله : { وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ } قال : يغيّرون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ } وهم ناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا بالله ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم ، فإذا برزوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خالفوا إلى غير ما قالوا عنده¹ فعابهم الله ، فقال : { بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ } يقول : يغيّرون ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ } : هم أهل النفاق .
وأما رفع «طاعة » فإنه بالمتروك الذي دلّ عليه الظاهر من القول ، وهو : أمرك طاعة ، أو منا طاعة . وأما قوله : { بَيّتَ طائِفَةٌ } فإن التاء من بيّت تحركها بالفتح عامة قراء المدينة والعراق وسائر القراء ، لأنها لام فعل . وكان بعض قراء العراق يسكنها ثم يدغمها في الطاء لمقاربتها في المخرج .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك ، ترك الإدغام ، لأنها أعني التاء والطاء من حرفين مختلفين¹ وإذا كان كذلك كان ترك الإدغام أفصح اللغتين عند العرب ، واللغة الأخرى جائزة أعني الإدغام في ذلك محكية .
القول في تأويل قوله تعالى : { فأعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ على اللّهِ وكَفَى باللّهِ وَكِيلاً } .
يقول جلّ ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : فأعرض يا محمد عن هؤلاء المنافقين الذين يقولون لك فيما تأمرهم : أمرك طاعة ، فإذا برزوا من عندك خالفوا ما أمرتهم به وغيّروه إلى ما نهيتهم عنه ، وخلّهم وما هم عليه من الضلالة ، وارض لهم بي منتقما منهم ، وتوكل أنت يا محمد على الله . يقول : أي وحسبك بالله وكيلاً : أي فيما يأمرك ، ووليّا لها ، ودافعا عنك وناصرا .
وقوله تعالى : { ويقولون طاعة } الآية نزلت في المنافقين باتفاق من المفسرين ، المعنى يقولون لك يا محمد : أمرنا طاعة ، فإذا خرجوا من عندك اجتمعوا ليلاً وقالوا غير ما أظهروا لك . و { بيَّت } معناه فعل ليلاً ، فإما أخذ من بات ، وإما من البيت لأنه ملتزم بالليل وفي الأسرار التي يخاف شياعها ، ومن ذلك قول الشاعر [ الأسود بن يعفر ] : [ المتقارب ]
أتوني فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا . . . وَكَانُوا أَتوني بِأَمْرٍ نكرْ{[4162]}
هبَّتْ لتعذلني بليل اسمعي *** سفهاً تبيتك للملامةِ فاهجعي{[4163]}
المعنى وتقول لي : اسمع ، وزيدت الياء إشباعاً لتصريع القافية واتباعاً للياء ، كقول امرىء القيس :
ألا أيُّها الليلُ الطويلُ أَلاَ انْجَلي . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4164]}
وقوله بأمثل ، وقرأ جمهور القراء { بيت } بتحريك التاء ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامها في الطاء ، وقرأ ابن مسعود «بيت مبيت منهم يا محمد » وقوله : { تقول } يحتمل أن يكون معناه تقول أنت يا محمد ، ويحتمل ، تقول هي لك ، و { يكتب } معناه على وجهين ، إما يكتبه عنده حسب كتب الحفظة حتى يقع الجزاء ، وإما يكتبه في كتابه إليك ، أي ينزله في القرآن ويعلم بها ، قال هذا القول الزجّاج ، والأمر بالإعراض إنما هو عن معاقبتهم ومجازاتهم ، وأما استمرار دعوتهم وعظتهم فلازم ، قال الضحاك : معنى { أعرض عنهم } لا تخبر بأسمائهم ، وهذا أيضاً قبل نزول القتال على ما تقدم . ثم أمر الله تعالى بالتوكل عليه والتمسك بعروته الوثقى ثقة بإنجاز وعده في النصر ، و «الوكيل » القائم بالأمور المصلح لما يخاف من فسادها ، وليس ما غلب الاستعمال في الوكيل في عصرنا بأصل في كلام العرب ، وهي لفظة رفيعة وضعها الاستعمال العامي ، كالعريف والنقيب وغيره .