وقوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ } أي : [ و ]{[24517]} كذلك الحيوانات من الأناسي والدواب - وهو : كل ما دب على قوائم - والأنعام ، من باب عطف الخاص على العام . كذلك هي مختلفة أيضا ، فالناس منهم بربر وحُبُوش وطُمَاطم في غاية السواد ، وصقالبة وروم في غاية البياض ، والعرب بين ذلك ، والهنود دون ذلك ؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى : { وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ } [ الروم : 22 ] . وكذلك الدواب والأنعام مختلفة الألوان ، حتى في الجنس الواحد ، بل النوع الواحد منهن مختلف الألوان ، بل الحيوان الواحد يكون أبلق ، فيه من هذا اللون وهذا اللون ، فتبارك الله أحسن الخالقين .
وقد قال{[24518]} الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا الفضل بن سهل ، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح ، حدثنا زياد بن عبد الله ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أيصبغ ربك ؟ قال : " نعم صبغا لا يُنفَض ، أحمر وأصفر وأبيض " . {[24519]} ورُوي مرسلا وموقوفا ، والله أعلم .
ولهذا قال تعالى بعد هذا : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } أي : إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به ؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى - كلما كانت المعرفة به أتمّ والعلم به أكمل ، كانت الخشية له أعظم وأكثر .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } قال : الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير .
وقال ابن لَهِيعَة ، عن ابن أبي عمرة ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس{[24520]} قال : العالم بالرحمن{[24521]} مَنْ لم يشرك به شيئا ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، وحفظ وصيته ، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله .
وقال سعيد بن جبير : الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل .
وقال الحسن البصري : العالم مَن خشي الرحمن بالغيب ، ورغب فيما رغب الله فيه ، وزهد فيما سَخط الله فيه ، ثم تلا الحسن : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } .
وعن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، أنه قال : ليس العلم عن كثرة الحديث ، ولكن العلم عن{[24522]} كثرة الخشية .
وقال أحمد بن صالح المصري ، عن ابن وهب ، عن مالك قال : إن العلم ليس بكثرة الرواية ، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب .
قال أحمد بن صالح المصري{[24523]} : معناه : أن الخشية لا تدرك بكثرة الرواية ، وأما العلم الذي فرض{[24524]} الله ، عز وجل ، أن يتبع فإنما هو الكتاب والسنة ، وما جاء عن الصحابة ، رضي الله عنهم ، ومن بعدهم من أئمة المسلمين ، فهذا لا يدرك إلا بالرواية ويكون تأويل قوله : " نور " يريد به فهم العلم ، ومعرفة معانيه .
وقال سفيان الثوري ، عن أبي حيان [ التميمي ]{[24525]} ، عن رجل قال : كان يقال : العلماء ثلاثة : عالم بالله عالم بأمر الله ، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله ، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله . فالعالم بالله وبأمر الله : الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض . والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله : الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض . والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله : الذي يعلم الحدود والفرائض ، ولا يخشى الله عز وجل .
وقوله : وَمِنَ النّاسِ وَالدّوَابّ والأنْعامِ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ كما من الثمرات والجبال مختلف ألوانه بالحُمرة والبياض والسواد والصفرة ، وغير ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ألَمْ تَرَ أنّ اللّهَ أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفا ألْوَانُها أحمر وأخضر وأصفر . وَمِنَ الجِبالِ جُددٌ بِيضٌ : أي طرائق بيض وحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُها أي جبال حمر وبيض وَغَرابِيبُ سُودٌ هو الأسود ، يعني لونه كما اختلف ألوان هذه اختلف ألوان الناس والدوابّ والأنعام كذلك .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَمِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ طرائق بيض ، وحمر وسود ، وكذلك الناس مختلف ألوانهم .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا مروان ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك قوله وَمِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ قال : هي طرائق حمر وسود .
وقوله : إنّمَا يَخْشى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ يقول تعالى ذكره : إنما يخاف اللّهَ فيتقي عقابه بطاعته العلماءُ ، بقدرته على ما يشاء من شيء ، وأنه يفعل ما يريد ، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته ، فخافه ورهبه خشية منه أن يعاقبه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ قال : الذين يعلمون أن الله على كلّ شيء قدير .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ قال : كان يقال : كفى بالرهبة عِلما .
وقوله : إنّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ يقول تعالى ذكره : إن الله عزيز في انتقامه ممن كفر به ، غفور لذنوب من آمن به وأطاعه .
{ ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك } كاختلاف الثمار والجبال . { إنما يخشى الله من عباده العلماء } إذ شرط الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله ، فمن كان اعلم به كان أخشى منه ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " أني أخشاكم لله وأتقاكم له " ولذلك أتبعه بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته ، وتقديم المفعول لأن المقصود حصر الفاعلية ولو آخر انعكس الأمر . وقرئ برفع اسم الله ونصب العلماء على أن الخشية مستعارة للتعظيم فإن المعظم يكون مهيبا . { إن الله عزيز غفور } تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصر على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه .
{ وَمِنَ الناس والدوآب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه } .
موقعه كموقع قوله : { ومن الجبال جدد } [ فاطر : 27 ] ، ولا يلزم أن يكون مسوغ الابتداء بالنكرة غير مفيد معنى آخر فإن تقديم الخبر هنا سوغ الابتداء بالنكرة .
واختلاف ألوان الناس منه اختلاف عام وهو ألوان أصناف البشر وهي الأبيض والأسود والأصفر والأحمر حسب الاصطلاح الجغرافي . وللعرب في كلامهم تقسيم آخر لألوان أصناف البشر ، وقد تقدم عند قوله : { واختلاف ألسنتكم وألوانكم } في سورة الروم ( 22 ) .
ومن } تبعيضية . والمعنى : أن المختلف ألوانه بعض من الناس ، ومجموع المختلفات كله هو الناس كلهم وكذلك الدواب والأنعام ، وهو نظم دقيق دعا إليه الإِيجاز .
وجيء في جملة { ومن الجبال جدد } [ فاطر : 27 ] و { من الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه } بالاسمية دون الفعلية كما في الجملة السابقة لأن اختلاف ألوان الجبال والحيوان الدال على اختلاف أحوال الإِيجاد اختلافاً دائماً لا يتغير وإنما يحصل مرة واحدة عند الخلق وعند تولد النسل .
{ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عزيز غفور } .
الأظهر عندي أن { كذلك } ابتداء كلام يتنزل منزلة الإِخبار بالنتيجة عقب ذكر الدليل . والمعنى : كذلك أمر الاختلاف في ظواهر الأشياء المشاهد في اختلاف ألوانها وهو توطئة لما يرد بعده من تفصيل الاستنتاج بقوله : { إنما يخشى الله من عباده } أي إنما يخشى الله من البشر المختلفة ألوانهم العلماء منهم ، فجملة { إنما يخشى الله من عباده العلماء } مستأنفة عن جملة { كذلك } . وإذا علم ذلك دل بالالتزام على أن غير العلماء لا تتأتّى منهم خشية الله فدلّ على أن البشر في أحوال قلوبهم ومداركهم مختلفون . وهذا مثل قوله : { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } [ فاطر : 18 ] .
وأوثر هذا الأسلوب في الدلالة تخلصاً للتنويه بأهل العلم والإِيمان لينتقل إلى تفصيل ذلك بقوله : { إن الذين يتلون كتاب الله } [ فاطر : 29 ] الآية . . .
فقوله : { كذلك } خبر لمبتدأ محذوف دل عليه المقام . والتقدير : كذلك الاختلاف ، أو كذلك الأمر على نحو قوله تعالى في سورة الكهف ( 91 ) : { كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً } وهو من فصل الخطاب كما علمت هنالك ولذلك يحسن الوقف على ما قبله ويستأنف ما بعده .
وأما جعل { كذلك } من توابع الكلام السابق فلا يناسب نظم القرآن لضعفه .
والقصر المستفاد من { إنما } قصر إضافي ، أي لا يخشاه الجهال ، وهم أهل الشرك فإن من أخص أوصافهم أنهم أهل الجاهلية ، أي عدم العلم ؛ فالمؤمنون يومئذٍ هم العلماء ، والمشركون جاهلون نفيت عنهم خشية الله . ثم إن العلماء في مراتب الخشية متفاوتون في الدرجات تفاوتاً كثيراً . وتقديم مفعول { يخشى } على فاعله لأن المحصور فيهم خشية الله هم العلماء فوجب تأخيره على سنة تأخير المحصور فيه .
والمراد بالعلماء : العلماء بالله وبالشريعة ، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقْوَى الخشية ؛ فأما العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقربة لهم من خشية الله ، ذلك لأن العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعية فهو يفهم مواقعها حق الفهم ويرعاها في مواقعها ويعلم عواقبها من خير أو شر ، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مراد الله ومقصدُ شرعه ، فإنْ هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات لداعي شهوة أو هوى أو تعجل نفع دنيوي كان في حال المخالفة موقناً أنه مورَّط فيما لا تحمد عقباه ، فذلك الإِيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإِقلاع أو الإِقلال .
وغير العالم إن اهتدى بالعلماء فسعيه مثل سعي العلماء وخشيته متولدة عن خشية العلماء . قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد « والعلم دليل على الخيرات وقائد إليها ، وأقرب العلماء إلى الله أولاهم به وأكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة » .
وجملة { إن الله عزيز غفور } تكميل للدلالة على استغناء الله تعالى عن إيمان المشركين ولكنه يريد لهم الخير . ولما كان في هذا الوصف ضرب من الإِعراض عنهم مما قد يحدث يأساً في نفوس المقاربين منهم ، أُلِّفَتْ قلوبهم بإتباع وصف { عزيز } ، بوصف { غفور } أي فهو يقبل التوبة منهم إن تابوا إلى ما دعاهم الله إليه على أن في صفة { غفور } حظاً عظيماً لأحد طرفي القصر وهم العلماء ، أي غفور لهم .