الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28)

{ وَمِنَ الناس والدواب والأنعام } ، أي : مختلِفَ ألوانهُ .

وقوله تعالى : { كذلك } يحتمل أن يكونَ من الكلامِ الأول فيجيءُ الوقْفُ عليهِ حَسَناً ، وإلى هذا ذهب كثيرٌ من المفسرين . ويحتملُ أنْ يكونَ مِن الكَلامِ الثَّانِي ؛ خَرَجَ مخرج السببِ كأنّه قال : كما جاءتْ القدرةُ في هذا كلِّه كذلك { إنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } ، أي : المحصلون لهذه العبرَ ، الناظرون فيها . وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ أشدُّكُم لَهُ خشية " ؛ وقال صلى الله عليه وسلم " رَأْسُ الحِكْمَة مَخَافَةُ اللّه " . وقال الرَّبِيع بن أنس : " مِنْ لم يخشَ اللّه فليسَ بعالمٍ " ، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية : كفى بالزهدِ عِلما ، ويقال : إن فاتحةَ الزَّبور ؛ رأس الحكمة خشيةُ اللّه ، وقال ابن مسعود : كفى بخشيةِ اللّه علماً ، وبالاغترارِ به جهلاً ، وقال مجاهد والشعبي : إنما العالمَ مَنْ يخْشَى اللّهَ . و{ إِنَّمَا } في هذه الآية تَخْصِيصٌ لِلعلمَاء ؛ لاَ للحصر . قال ابن عطاء اللّه في «الحِكم » : " العلمْ النافعُ هُو الذي يَنْبَسِط في الصدر شعاعُه ، ويُكْشَفُ به عن القلبِ قناعُه ، خَيرُ العلم ما كانت الخشيةُ مَعَه ؛ والعلم إن قارَنَتْهُ الخشيةُ فَلَكَ وإلا فَعَلَيْكَ " .

وقال في «التنوير » : " اعلم أن العلمَ ؛ حيثُ ما تكرَّر في الكتابِ العزيز أو في السنة ؛ فإنما المرادُ به العلمْ النافعُ الذي تُقَارِنُه الخشيةُ وتَكْتَنِفُه المخَافَةُ : قال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } فبَيَّنَ سبحانه أنَّ الخشيةَ تُلازِمُ العلمَ ، وفُهِمَ من هذا أن العلماءَ إنما هم أهل الخشية " انتهى .

قال ابن عَبَاد في «شرح الحكم » : " واعلم أن العلمَ النافعَ المتفقَ عليه فيما سلف وخلف ؛ إنما هو العلم الذي يؤدي صاحبَه إلى الخوفِ ، والخشيةِ ، وملازمةِ التَّواضُع ، والذَّلَّةِ ، والتخلُّقِ بأخلاق الإيمان ، إلى ما يَتْبَعُ ذلك من بُغْضِ الدنيا ، والزَّهَادَةِ فيها ، وإيثارِ الآخرة عليها ، ولزوم الأدَب بين يَدَيْ اللّه تعالى ، إلى غير ذلك من الصفات العَلِيَّةِ والمَنَاحِي السَّنِيَّة " انتهى .

وهذه المعاني كلها مُحَصَّلة في كتب الغزالي وغيره ؛ رضي اللّه عن جميعهم ، ونفعنا ببركاتهم ، قال صاحب : " الكلم الفارقية " و " الحكم الحقيقية " : " العلم النافعُ ما زَهَّدَك في دنياك ، ورغَّبك في أخراك ، وزادَ في خوفِك وتَقْواك ، وبعثَك على طاعةِ مولاك ، وصَفَّاك مِن كَدَرِ هَوَاك . وقال رحمه اللّه : العلومُ النافعةُ ما كانتْ لِلْهِمَمِ رافعةً ، وللأهواءِ قامِعةً ، وللشكوكِ صَارِفةً دافعةً " انتهى .