فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28)

{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ } وقرئ بتخفيف الباء { وَالأَنْعَامِ } أي ومنهم صنف أو نوع أو بعض .

{ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } بالحمرة والسواد والبياض والخضرة والصفرة قال الفراء أي : خلق مختلف ألوانه كاختلاف الثمرات والجبال ، وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان في هذه الأشياء لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله وبديع صنعه .

{ كَذَلِكَ } أي مختلفا مثل ذلك الاختلاف ، والتقدير مختلف ألوانه اختلافا كائنا كذلك أي كاختلاف الجبال والثمار ، قال ابن عطية : متعلق بما بعده أي مثل ذلك النظر والاعتبار في مخلوقات الله ، واختلاف ألوانها { إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } ، وهو مردود بأن ما بعد إنما لا يعمل فيما قبلها ، والراجح الوجه الأول والوقف على كذلك تام ، ثم استأنف الكلام واخبر سبحانه بقوله :

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } وهو من تتمة قوله : { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } على معنى إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به ، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة ، وعلى كل تقدير فهو سبحانه قد عين في هذه الآية أهل خشيته ، وهم العلماء به ، وبعظيم قدرته قال مجاهد : إنما العالم من خشي الله عز وجل ، ومثله عن الشعبي .

وقال مسروق : كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار جهلا ، وعن ابن مسعود نحوه فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له . قال الربيع بن أنس : من لم يخش الله فليس بعالم ، ووجه تقديم المفعول أن المقام مقام حصر الفاعلية ولو أخر لانعكس الأمر ، وقرئ : برفع الاسم الشريف ونصب العلماء ورويت هذه القراءة عن أبي حنيفة : قال في الكشاف : الخشية في هذه القراءة استعارة ، والمعنى أنه يجلهم ويعظهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس .

قال ابن عباس : العلماء بالله الذين يخافونه ، وعنه قال : الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير ، وعن ابن مسعود قال : ليس العلم من كثرة الحديث ، لكن العلم من الخشية ، وفي لفظ بكثرة الرواية وعن حذيفة بحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله .

وعن عائشة قالت : صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ، ثم قال : ( ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية ) أخرجه البخاري ومسلم .

{ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب على معصيته غافر لمن تاب من عباده .