الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28)

{ وَمِنَ الناس والدواب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه } يعني : ومنهم بعض مختلف ألوانه . وقرىء : «ألوانها » ، وقرأ الزهري : «جدد » ، بالضم : جمع جديدة ، وهي الجدّة . يقال : جديدة وجدد وجدائد ، كسفينة وسفن وسفائن . وقد فسر بها قول أبي ذؤيب يصف حمار وحش :

جُونُ السَّرَاةِ لَهُ جَدَائِدُ ارْبَعُ ***

وروي عنه : جدد ، بفتحتين ، وهو الطريق الواضح المسفر وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض . وقرىء : «والدواب » مخففاً ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ : «ولا الضألين » لأنّ كل واحد منهما فرار من التقاء الساكنين ، فحرك ذاك أوّلهما ، وحذف هذا أخرهما . وقوله : { كذلك } أي كاختلاف الثمرات والجبال . والمراد : العلماء به الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، فعظموه وقدروه حق قدره ، وخشوه حق خشيته ، ومن ازداد به علماً ازداد منه خوفاً ، ومن كان علمه به أقل كان آمن . وفي الحديث : " أَعلمُكُم بِاللَّهِ أَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً " وعن مسروق : كفى بالمرء علماً أن يخشى ، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه . وقال رجل للشعبي : أفتني أيها العالم ، فقال : العالم من خشي الله . وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه .

فإن قلت : هل يختلف المعنى إذا قدّم المفعول في هذا الكلام أو أخر ؟ قلت : لا بدّ من ذلك ، فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت العلماء كان المعنى : أنّ الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم ، وإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم [ لا ] يخشون إلا الله ، كقوله تعالى :

{ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله } [ الأحزاب : 39 ] وهما معنيان مختلفان .

فإن قلت : ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله ؟ قلت : لما قال : { أَلَمْ تَرَ } بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء ، وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس وما يستدلّ به عليه وعلى صفاته ، أتبع ذلك { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } كأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك : ممن عرفه حق معرفته وعلمه كنه علمه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " أَنَا أَرجُو أَنْ أكونَ أتقاكُم للَّهِ وأَعْلَمَكُمْ بِهِ "

فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ : «إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء » وهو عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبي حنيفة ؟ قلت : الخشية في هذه القراءة استعارة ، والمعنى : إنما يجلهم ويعظمهم ، كما يجلّ المهيب المخشي من الرجال بين الناس ومن بين جميع عباده { إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ } تعليل لوجوب الخشية ، لدلالته على عقوبة العصاة ، وقهرهم وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم ، والمعاقب المثيب : حقه أن يخشى .