الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ومن الناس والدواب والأنعام} بيض وحمر وصفر وسود {مختلف ألوانه} اختلاف ألوان الثمار.

{كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء} فيها تقديم: أشد الناس لله عز وجل خيفة أعلمهم بالله تعالى.

{إن الله عزيز} في ملكه {غفور} لذنوب المؤمنين.

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

القاضي عياض: قال ابن وهب: قال مالك: الناس في العلم أربعة: رجل علم فعمل به وعلّمه، فمثله في كتاب الله قوله: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}.

ابن كثير: قال أحمد بن صالح المصري عن ابن وهب عن مالك: قال: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"وَمِنَ النّاسِ وَالدّوَابّ والأنْعامِ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ" كما من الثمرات والجبال مختلف ألوانه بالحُمرة والبياض والسواد والصفرة، وغير ذلك...

وقوله: "إنّمَا يَخْشى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ "يقول تعالى ذكره: إنما يخاف اللّهَ فيتقي عقابه بطاعته العلماءُ، بقدرته على ما يشاء من شيء، وأنه يفعل ما يريد، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته، فخافه ورهبه خشية منه أن يعاقبه... عن قتادة، قوله: "إنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ" قال: كان يقال: كفى بالرهبة عِلما.

وقوله: "إنّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ" يقول تعالى ذكره: إن الله عزيز في انتقامه ممن كفر به، غفور لذنوب من آمن به وأطاعه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{إنما يخشى الله من عباده العلماء} هذا يحتمل وجوها:

أحدهما: أن الذي يحق على العالم بالله أن يخشاه لما يعلم من سلطانه وهيبته وقدرته وجلاله.

والثاني: أن العالِم بالبعث، هو المؤمن به، وهو يخشى مخالفة الله في أوامره ونواهيه لما يعلم من نقمته وعذابه من خالفه وعصى أمره، فأما من لم يعلم بالبعث، ولم يؤمن به فلا يخافه كقوله: {والذين آمنوا مشفقون منها} [الشورى: 18].

والثالث: أن يكون قوله: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} عباده من جملة المؤمنين. يقول: والله أعلم: إنما يخشى الله من عباده المؤمنون به المصدّقون عذابه ونقمته. فأما من لم يؤمن به فلا يخافه.

والخشية قال الحسن: هي الخوف الدائم واللازم في القلب غير مفارق له.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

قال مسروق: كفى بالمرء علماً أنْ يخشى الله، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوابِّ وَالأَنعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلَوَانُهُ كَذلِكَ} فيه وجهان:... الثاني: يعني بقوله كذلك أي كما اختلف ألوان الثمار والجبال والناس والدواب والأنعام كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية.

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

{إنما يخشى الله من عباده العلماء} من لم يعرفه حق معرفته لم يهبه حق مهابته، ولم يعظمه حق تعظيمه وحرمته، فالعلم يعرفه ويعظمه ويهابه، فصار العلم يثمر الطاعة كلها ويحجز عن المعصية كلها بتوفيق الله تعالى. (منهاج العابدين إلى جنة رب العالمين: 63-64)...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

العلماء به الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فعظموه وقدروه حق قدره، وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علماً ازداد منه خوفاً، ومن كان علمه به أقل كان آمن، وفي الحديث:"أَعلمُكُم بِاللَّهِ أَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً"...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{مختلف ألوانه} القول فيه كما أنها في أنفسها دلائل، كذلك في اختلافها دلائل.

{مختلف ألوانه} فذكر لكون الإنسان من جملة المذكورين، وكون التذكير أعلى وأولى.

{إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور} الخشية بقدر معرفة المخشى، والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه؛ وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد، لأن الله تعالى قال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فبين أن الكرامة بقدر التقوى، والتقوى بقدر العلم، فالكرامة بقدر العلم لا بقدر العمل، نعم العالم إذا ترك العمل قدح ذلك في علمه، فإن من يراه يقول: لو علم لعمل.

جهود القرافي في التفسير 684 هـ :

أضاف سبحانه الخشية إلى كل عالم على وجه الحصر، فيكون كل من يخشى الله تعالى فهو عالم، وهو المطلوب. (الذخيرة: 1/41)...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

الدواب هو: كل ما دب على قوائم، والأنعام، من باب عطف الخاص على العام. كذلك هي مختلفة أيضا، فالناس منهم بربر وحُبُوش وطُمَاطم في غاية السواد، وكذلك الدواب والأنعام مختلفة الألوان، حتى في الجنس الواحد، بل النوع الواحد منهن مختلف الألوان، فتبارك الله أحسن الخالقين...

ولهذا قال تعالى بعد هذا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} أي: إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى -كلما كانت المعرفة به أتمّ والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر...

الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :

قال ابن عطاء اللّه في «الحِكم»: العلمْ النافعُ هُو الذي يَنْبَسِط في الصدر شعاعُه، ويُكْشَفُ به عن القلبِ قناعُه، خَيرُ العلم ما كانت الخشيةُ مَعَه؛ والعلم إن قارَنَتْهُ الخشيةُ فَلَكَ وإلا فَعَلَيْكَ.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ذكر تعالى ما الأغلب فيه الماء مما استحال إلى آخر بعيد من الماء، وأتبعه التراب الصرف، ختم بما الأغلب فيه التراب مما استحال إلى ما هو في غاية البعد من التراب فقال: {ومن الناس} أي المتحركين بالفعل والاختيار {والدواب} ولما كانت الدابة في الأصل لما دب على الأرض، ثم غلب إطلاقه على ما يركب قال: {والأنعام} ليعم الكل صريحاً {مختلف ألوانه} أي ألوان ذلك البعض الذي أفهمته "من".

ولما ثبت بهذا البرهان أنه سبحانه فاعل بالاختيار، فهو يفعل فيما يشاء ومن يشاء، ما يشاء، وكان السياق لإنذار من يخشى بالغيب، فثبت أن الإنذار بهذا القرآن يكون لقوم أراد الله خشيتهم خشية، ولقوم أراد الله قسوتهم قسوة، التفت النفس إلى طلب قانون يعرف به من يخشى ومن لا يخشى، فقال على سبيل الاستنتاج من ذلك، دفعاً لظن من يحسب أنه يمكن أن يكون ولي جاهلاً: {إنما يخشى الله} أي الذي له جميع الكمال، ولا كمال لغيره إلا منه، ودل على أن كل من سواه في قبضته وتحت قهره بقوله: {من عباده} ثم ذكر محط الفائدة وهو من ينفع إنذاره فقال: {العلماء} أي لا سواهم وإن كانوا عباداً وإن بلغت عبادتهم ما عسى أن تبلغ، لأنه لا يخشى أحد أحداً إلا مع معرفته.

ولما كان سبب الخشية التعظيم والإجلال، وكان كل أحد لا يجل إلا من أجله، وكان قد ثبت أن العلماء يجلون الله، وكان سبب إجلالهم له إجلاله لهم، كان هذا معنى القراءة الأخرى، فكان كأنه قيل: إنما ينفع الإنذار من يجل الله، فالله يجله لعلمه.

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

لأن الخشية ليست هي خوف العقاب، بل هيئة في القلب خشوعية انكسارية عند تصور وصف العظمة واستحضاره لها، فمن لم يتصور عظمته لم يمكنه خشيته. ومن تجلى الله له بعظمته، خشيه حق خشيته، ومراتب الخشية لا تحصى بحسب مراتب العلم والعرفان.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

... ثم ألوان الناس، وهي لا تقف عند الألوان المتميزة العامة لأجناس البشر، فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين بني جنسه، بل متميز من توأمه الذي شاركه حملاً واحداً في بطن واحدة! وكذلك ألوان الدواب والأنعام.

الأنعام هي الإبل والبقر والغنم والماعز، خصصها من الدواب لقربها من الإنسان. والألوان والأصباغ فيها معرض كذلك جميل كمعرض الثمار ومعرض الصخور سواء، هذا الكتاب الكوني الجميل الصفحات العجيب التكوين والتلوين، يفتحه القرآن ويقلب صفحاته ويقول: إن العلماء الذين يتلونه ويدركونه ويتدبرونه هم الذين يخشون الله: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)..

والألوان والأصباغ نموذج من بدائع التكوين الأخرى وبدائع التنسيق التي لا يدركها إلا العلماء بهذا الكتاب، العلماء به علماً واصلاً، علماً يستشعره القلب، ويتحرك به، ويرى به يد الله المبدعة للألوان والأصباغ والتكوين والتنسيق في ذلك الكون الجميل؛ إن عنصر الجمال يبدو مقصوداً قصداً في تصميم هذا الكون وتنسيقه، ومن كمال هذا الجمال أن وظائف الأشياء تؤدى عن طريق جمالها، هذه الألوان العجيبة في الأزهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة التي تفوح، ووظيفة النحل والفراش بالقياس إلى الزهرة هي القيام بنقل اللقاح، لتنشأ الثمار، وهكذا تؤدي الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها!..

والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الآخر إليه، لأداء الوظيفة التي يقوم بها الجنسان، وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال؛ الجمال عنصر مقصود قصداً في تصميم هذا الكون وتنسيقه، ومن ثم هذه اللفتات في كتاب الله المنزل إلى الجمال في كتاب الله المعروض.

(إن الله عزيز غفور).. عزيز قادر على الإبداع وعلى الجزاء. غفور يتدارك بمغفرته من يقصرون في خشيته، وهم يرون بدائع صنعته.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

إذن: فالاختلاف في كل الأجناس؛ لأن الخَلْق قائم على طلاقة القدرة، فالناس مع كثرتهم مختلفون، وهذا إعجاز دالّ على طلاقة القدرة، فالخَلْق ليس على قالب واحد يُخرِج نسخاً متطابقة، إنك تنظر إلى الرجل فتقول هو شبه فلان، لكن إذا دققتَ النظر لا بُدَّ أنْ ترى اختلافاً، إذن: طلاقة القدرة تقتضي اختلاف كل أجناس الوجود: الجماد، والنبات، والحيوان، والإنسان.

ومعنى الدوابّ: كل ما يدبّ على الأرض عدا الإنسان والأنعام التي هي البقر والغنم والإبل والماعز.

وقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..}.

والخشية هي الخوف الممزوج بالرجاء، وهذا من العلماء عمل من أعمال القلوب، وأنت تخاف مثلاً من عدوك، لكن لا رجاءَ لك فيه، إنما حين تخاف من الله تخافه سبحانه وأنت ترجوه وأنت تحبه، لذلك قالوا: لا ملجأ من الله إلا إليه.

والعلم إما علم شرعي، وهو علم الأحكام: الحلال والحرام والواجب والسنة.. الخ. أو علم الكونيات، وهذه الآية وردت في سياق الحديث عن آيات كونية ولم يُذكر قبلها شيء من أحكام الشرع؛ لذلك نقول: إن المراد بالعلماء هنا العلماء بالكونيات والظواهر الطبيعية، وينبغي أن يكون هؤلاء هم أخشى الناس لله تعالى؛ لأنهم أعلم بالآيات الكونية في: الجمادات، والنبات، وفي الحيوان، والإنسان، وهم أقدر الناس على استنباط ما في هذه الآيات من أسرار لله تعالى.

وكونيات الوجود هي الدليل على واجب الوجود، وهي المدخل في الوصول إلى الخالق سبحانه وإلى الإيمان به؛ لذلك كثيراً ما نجد في القرآن:

{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم: 23].

وإذا كان العلم قضية يقينية مجزوماً بها وعليها دليل، فإن الحق سبحانه وتعالى نزَّل لنا علم الشرع وحدَّد لنا حدوده، فلا دَخْلَ لنا فيه، لذلك عصمه الله وأحكمه؛ لأن الأهواء تختلف فيه، والحق سبحانه يقول:

{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالأَرْضُ} [المؤمنون: 71]. أما علم الكونيات فقد تركه الخالق سبحانه للعقول تبحث فيه وتستنبط منه وتتنافس فيه، بل وتسرقه بعض الدول من بعض...

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} عزيز لا يُغلب، وغفور لكم إنْ بدر منكم سهو أو تقصير في استنباط أسرار الله في كونه، يغفر لهم إنْ أخطأوا في تجربة من تجاربهم، فسوف يأتي مَنْ بعدهم ويصححها.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(إنّما يخشى الله من عباده العلماء) فالعلماء من بين جميع العباد، هم الذين نالوا المقام الرفيع من الخشية «وهي الخوف من المسؤولية، متوافق مع إدراك لعظمة الله سبحانه»، حالة (الخشية) هذه تولّدت نتيجة سبر أغوار الآيات الآفاقية والأنفسية، والتعرّف على حقيقة علم وقدرة الله وغاية الخلق.

الراغب في مفرداته يقول: «الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه، ولذلك خصّ العلماء بها».!

كذلك يستفاد من هذه الجملة ضمناً بأنّ العلماء الحقيقيين هم اُولئك الذين يستشعرون المسؤولية الثقيلة حيال وظائفهم، وبتعبير آخر: أهل عمل لا كلام، إذ أنّ العلم بدون عمل دليل على عدم الخشية، ومن لا يستشعر الخشية لا تشمله الآية أعلاه.

وفي ختام الآية يقول تعالى كدليل موجز على ما مرّ: (إنّ الله عزيز غفور) «عزّته» وقدرته اللامتناهية منبع للخوف والخشية عند العلماء، و (غفرانه)، سبب في الرجاء والأمل عندهم، وبذا فإنّ هذين الاسمين المقدّسين يحفظان عباد الله بين الخوف والرجاء، ونعلم بأنّه لا يمكن إدامة الحركة باتّجاه التكامل بدون الاتصاف بهاتين الصفتين بشكل متكافئ.