اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28)

ثم ذكرالحيوان وبدأ بالأشرف منها وهو الإنسان فقال : «ومن الناس » ثم ذكر الدواب ، لأن منافعها في حياتها والأنعام منفعتها في الأكل منها أو لأن الدابة{[45314]} في العرف تُطْلَقُ{[45315]} على الفَرَس وهو بعد الإنسان أشرف من غيره . وقوله : «مختلف ألوانه » القول فيه كما تقدم أنها في أنفسها دلائل كذلك باختلافها دلائل . وقوله : «مختلف ألوانه » مذكراً ؛ لكون الإنسان{[45316]} من جملة المذكور فكان التذكير أولى{[45317]} .

قوله : { كَذَلِكَ } فيه وجهان :

أظهرهما : أنه متعلق بما قبله أي مُخْتَلِفٌ اخْتِلاَفاً مِثْلَ{[45318]} الاختلاف في الثَّمرات والجُدَد والوقف على «كَذَلِكَ »{[45319]} .

والثاني : أنه متعلق بما بعده والمعنى مثل ذلك المطر والاعتبار بمَخْلُوقات{[45320]} الله واختلاف ألوانها يخشى اللَّهَ العلماءُ . وإلى هذا نحا ابنُ عَطِيَّةَ{[45321]} . وهو فاسد من حيث إن ما بعد «إنَّمَا » مانع من العمل فيها قبلها{[45322]} وقد نَصَّ أبو عمرو الدَّانِيُّ{[45323]} على أن الوقف على «كذلك » تام . ولم يحك فيه خِلاَفاً{[45324]} .

قوله : { إِنَّمَا يَخْشَى الله } العامة على نصب الجلالهِ ورفع «العلماء » وهي واضحة . وقرأ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزَ وأَبُو حَنِيفَةَ - فيما نقله الزمخشريّ{[45325]} - وأبو حيوة - فيما نقله الهذلي{[45326]} في كامله - بالعكس . وتُؤُوِّلَتْ على معنى التعظيم أي إنما يعظم اللَّهُ من عباده العلماء وهذه القراءة شبيهة بقراءة : «وإذا ابْتَلَى إبْرَاهِيمُ رَبَّهُ » برفع إبْرَاهِيمَ ونصب «رَبَّهُ »{[45327]} .

فصل

قال ابن عباس{[45328]} : إنما يخافُني مِنْ خَلْقي من عَلِمَ جَبَرُوتِي وعِزَّتِي وسُلْطَاني . واعلم أنَّ الخشيبة بقدرمعرفة المخشي والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه . وهذا دليل على أنَّ العالمَ أعلى درجةً من العابد ؛ لقوله تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] بين أن الكرامة بقدر التقوى والتقوى بقدر العلم لا بقدر العمل قال - عليه ( الصلاة و ) السلام- : «وَاللَّهِ إنِّي لأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً »{[45329]} وقال - عليه ( الصلاة{[45330]} و ) السلام- : «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً »{[45331]} وقال مسروق : كفى بخشية عِلماً وكفى بالاغترار{[45332]} بالله جهلاً . ثم قال : { إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ } أي عزيز في ملكه غفور لذنوب عباده فذكر ما يوجب الخوف والرجاء فكونه عزيزاً يوجب الخوف{[45333]} التام وكونه غفورا لما دون ذلك يوجب{[45334]} الرجاء البالغ . وقراءة من قرأ بنصب العلماء ورفع الجلالة تقدَّم معناه .


[45314]:كذا هنا وفي الفخر وما في ((ب)) لأن الدواب.
[45315]:في ((ب)) يطلق.
[45316]:في ((ب)) اللون خطأ وفي الفخر: فذكر الكون.
[45317]:انظر: الرازي 26/20 .
[45318]:قاله الزمخشري في الكشاف 3/307 والنحاس في الإعراب 4/371 ومكي في المشكل 2/217 وأبو البقاء في التبيان 1075 وأبو حيان في البحر 7/312 .
[45319]:حسن. قال بذلك أبو حيان في السابق.
[45320]:في ((ب)) في مخلوقات الله.
[45321]:البحر المحيط 7/312.
[45322]:قاله أبو حيان في المرجع السابق والسمين في الدر 4/481 .
[45323]:عثمان بن سعيد بن عثمان أبو عمر الداني الأموي مولاهم القرطبي المعروف في زمانه بابن الصيرفي الإمام الحافظ أستاذ وشيخ مشايخ المقرئين. أخذ القراءة عن خلف بن إبراهيم وغيره وقرأ عليه إسحاق بن إبراهيم الفيسوني وغيره له مؤلفات ضخمة ونافعة مات سنة 444 هـ الغاية 1/503 – 505 .
[45324]:انظر: المكتفى في الوقف والابتداء 266 وقال القرطبي ((كذلك)) هنا تمام الكلام أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية ثم استأنف فقال: ((إنما يخشى الله من عباده العلماء)).
[45325]:نقله في الكشاف 3/308 وقد نقلها القرطبي أيضا في الجامع 14/344 .
[45326]:الهذلي: يوسف بن علي بن جبارة أبو القاسم الهذلي اليشكري الأستاذ الكبير والرحال والعلم الشهير أخذ عن أناس كثيرين وكتابه الكامل مشهور مات سنة 465 هـ. الغاية 2/397 : 401.
[45327]:وقد اعترض على هذه القراءة أبو حيان في البحر 7/312 بأنها في غاية الشذوذ وانظر: القرطبي 14/344 والآية 124 من البقرة .
[45328]:البغوي 5/301 .
[45329]:الحديث رواه الإمام البخاري عن عائشة 1/12 و 13 وانظر: البغوي 5/301 .
[45330]:زيادة من ((ب)) .
[45331]:المرجع الأخير وانظر: الموطأ الكسوف رقم 1 ومسند الإمام أحمد 2/257 و 312 و 318 و 432 و 453 و 467 و 477 و 502 .
[45332]:في ((ب)) بالإغرار تحريف وانظر: البغوي المرجع السابق.
[45333]:في ((ب)) : ((موجب)) بالاسمية .
[45334]:في ((ب)) : ((موجب)) بالاسمية .