تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ} (179)

يقول تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا } أي : خلقنا وجعلنا { لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ } أي : هيأناهم لها ، وبعمل أهلها يعملون ، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلائق ، علم ما هم عاملون قبل كونهم ، فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، كما ورد في صحيح مسلم ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء " {[12404]}

وفي صحيح مسلم أيضا ، من حديث عائشة بنت طلحة ، عن خالتها عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، أنها قالت : دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله طوبى له ، عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل السوء ولم يدركه . فقال [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ]{[12405]} أو غير ذلك يا عائشة ؟ إن الله خلق الجنة ، وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار ، وخلق لها{[12406]} أهلا وهم في أصلاب آبائهم " {[12407]}

وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود [ رضي الله عنه ]{[12408]} ثم يبعث إليه الملك ، فيؤمر بأربع كلمات ، فيكتب : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم{[12409]} سعيد " .

وتقدم أن الله [ تعالى ]{[12410]} لما استخرج ذرية آدم من صلبه وجعلهم فريقين : أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، قال : " هؤلاء للجنة ولا أبالي ، وهؤلاء للنار ولا أبالي " .

والأحاديث في هذا كثيرة ، ومسألة القدر كبيرة ليس هذا موضع بسطها .

وقوله تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا } يعني : ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله [ سببا للهداية ]{[12411]} كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ]{[12412]} } [ الأحقاف : 26 ] وقال تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 18 ] هذا في حق المنافقين ، وقال في حق الكافرين : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] ولم يكونوا صمًا بكمًا عميًا إلا عن الهدى ، كما قال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] ، وقال : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] ، وقال { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [ الزخرف : 36 ، 37 ] .

وقوله تعالى : { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ } أي : هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى ، كالأنعام السارحة التي لا تنتفع{[12413]} بهذه الحواس منها إلا في الذي يعيشها من ظاهر الحياة الدنيا كما قال تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ]{[12414]} } [ البقرة : 171 ] أي : ومثلهم - في حال دعائهم إلى الإيمان - كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته ، ولا تفقه{[12415]} ما يقول ؛ ولهذا قال في هؤلاء : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } أي : من الدواب ؛ لأن الدواب قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أبس بها ، وإن لم تفقه كلامه ، بخلاف هؤلاء ؛ ولأن الدواب تفقه{[12416]} ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها ، بخلاف الكافر فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده ، فكفر بالله وأشرك به ؛ ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده ، ومن كفر به{[12417]} من البشر ، كانت الدواب أتم منه ؛ ولهذا قال تعالى : { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }


[12404]:صحيح مسلم برقم (2653).
[12405]:زيادة من د.
[12406]:في د، ك، م: "للنار".
[12407]:صحيح مسلم برقم (2662).
[12408]:زيادة من أ.
[12409]:في ك، م، أ: "أو".
[12410]:زيادة من أ.
[12411]:زيادة من د، ك، م، أ.
[12412]:زيادة من أ. وفي هـ: "الآية".
[12413]:في ك، م: "لا ينتفع".
[12414]:زيادة من أ.
[12415]:في أ: "لا تفهم".
[12416]:في أ: "تفعل".
[12417]:في أ: "بالله".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ} (179)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنّمَ كَثِيراً مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلََئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ أُوْلََئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } . .

يقول تعالى ذكره : ولقد خلقنا لجهنم كثيرا من الجنّ والإنس ، يقال منه : ذرأ الله خلقه يذرؤهم ذَرْءا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .

حدثني عليّ بن الحسين الأزديّ ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، في قوله : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لجَهَنّمَ كَثِيرا مِنَ الجِنّ والإنْسِ قال : مما خلقنا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن مبارك ، عن الحسن ، في قوله : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لجَهَنّمَ قال : خلقنا .

قال : ثنا زكريا ، عن عَتّاب بن بشير ، عن عليّ بن بِذَيمة ، عن سعيد بن جبير ، قال : أولاد الزنا مما ذرأ الله لجهنم .

قال : ثنا زكريا بن عديّ وعثمان الأحول ، عن مروان بن معاوية ، عن الحسن بن عمرو ، عن معاوية ابن إسحاق ، عن جليس له بالطائف ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ اللّهَ لَمّا ذَرَأَ لجَهَنّمَ ما ذَرَأ ، كانَ وَلَدُ الزّنا مِمّنْ ذَرَأ لجَهَنّمَ » .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لجَهَنّمَ يقول : خلقنا .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لجَهَنّمَ قال : لقد خلقنا لجهنم كثيرا من الجنّ والإنس .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لجَهَنّمَ خلقنا .

وقال جلّ ثناؤه : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لجَهَنّمَ كَثِيرا مِنَ الجِنّ والإنْس لنفاذ علمه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربهم .

وأما قوله : لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بها فإن معناه : لهؤلاء الذين ذرأهم الله لجهنم من خلقه قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله ، ولا يتدبرون بها أدلته على وحدانيته ، ولا يعتبرون بها حججه لرسله ، فيعلموا توحيد ربهم ، ويعرفوا حقيقة نبوّة أنبيائهم . فوصفهم ربنا جلّ ثناؤه بأنهم لا يفقهون بها لإعراضهم عن الحقّ وتركهم تدبر صحة الرشد وبطول الكفر . وكذلك قوله : ولَهُمْ أعيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بها معناه : ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته ، فيتأملوها ويتفكروا فيها ، فيعلموا بها صحة ما تدعوهم إليه رسلهم ، وفساد ما هم عليه مقيمون من الشرك بالله وتكذيب رسله فوصفهم الله بتركهم إعمالها في الحق بأنهم لا يبصرون بها . وكذلك قوله : ولَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بها آيات كتاب الله فيعتبروها ويتفكروا فيها ، ولكنهم يعرضون عنها ، ويقولون : لا تَسْمَعُوا لهذا القُرْآنِ والْغوا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ . وذلك نظير وصف الله إياهم في موضع آخر بقوله : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقلُونَ والعرب تقول ذلك للتارك استعمال بعض جوارحه فيما يصلح له ، ومنه قول مسكين الدارمي :

أعْمَى إذَا ما جارَتي خَرَجَت ***حتى يُوَاريَ جارَتي السّتْرُ

وأصَمّ عَمّا كانَ بَيْنَهُما ***سَمْعي وَما بالسّمْع مِنْ وَقْرِ

فوصف نفسه لتركه النظر والاستماع بالعمى والصمم . ومنه قول الاَخر :

وَعَوْرَاءِ اللّئامِ صَمَمْتُ عَنْها ***وإنّي لَوْ أشاءُ بِها سَمِيعُ

وبَادِرَةٍ وَزَعْتُ النّفْسَ عَنْها ***وَلَوْ بِينَتْ مِنَ العَصَبِ الضّلوعُ

وذلك كثير في كلام العرب وأشعارها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها قال : لا يفقهون بها شيئا من أمر الاَخرة . ولَهُمْ أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها الهدى . ولَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الحَقّ ثم جعلهم كالأنعام ، ثم جعلهم شرّا من الأنعام ، فقال : بَلْ هُمْ أضَلّ ثم أخبر أنهم هم الغافلون .

القول في تأويل قوله تعالى : أولَئِكَ كالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلّ أولئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : أُولَئِكَ كالأنْعامِ هؤلاء الذين ذرأهم لجهنم هم كالأنعام ، وهي البهائم التي لا تفقه ما يقال لها ولا تفهم ما أبصرته مما يصلح وما لا يصلح ولا تعقل بقلوبها الخير من الشرّ فتميز بينهما ، فشبههم الله بها ، إذ كانوا لا يتذكرون ما يرون بأبصارهم من حججه ، ولا يتفكرون فيما يسمعون من آي كتابه . ثم قال : بَلْ هُمْ أضَلّ يقول : هؤلاء الكفرة الذين ذرأهم لجهنم أشدّ ذهابا عن الحقّ وألزم لطريق الباطل من البهائم ، لأن البهائم لا اختيار لها ولا تمييز فتختار وتميّز ، وإنما هي مسخرة ومع ذلك تهرب من المضارّ وتطلب لأنفسها من الغذاء الأصلح . والذين وصف الله صفتهم في هذه الاَية ، مع ما أُعطوا من الأفهام والعقول المميزة بين المصالح والمضارّ ، تترك ما فيه صلاح دنياها وآخرتها وتطلب ما فيه مضارّها ، فالبهائم منها أسد وهي منها أضلّ ، كما وصفها به ربنا جلّ ثناؤه .

وقوله : أُولَئِكَ هُمُ الغافِلُونَ يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفت صفتهم ، القوم الذين غفلوا ، يعني سهوا عن آياتي وحججي ، وتركوا تدبرها والاعتبار بها والاستدلال على ما دلت عليه من توحيد ربها ، لا البهائم التي قد عرّفها ربها ما سخرها له .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ} (179)

{ ولقد ذرأنا } خلقنا . { لجهنم كثيرا من الجن والإنس } يعني المصرين على الكفر في علمه تعالى . { لهم قلوب لا يفقهون بها } إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في دلائله . { ولهم أعين لا يبصرون بها } أي لا ينظرون إلى ما خلق الله نظر اعتبار . { ولهم آذان لا يسمعون بها } الآيات والمواعظ سماع تأمل وتذكر . { أولئك كالأنعام } في عدم الفقه والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبر ، أو في أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها . { بل هم أضلّ } فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار ، وتجتهد في جلبها ودفعها غاية جهدها ، وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار . { أولئك هم الغافلون } الكاملون في الغفلة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ} (179)

وصفت هذه الصنفة الكافرة المعرضة عن النظر في آيات الله بأن قلوبهم لا تفقه ، والفقه الفهم ، وأعينهم لا تبصر ، وآذانهم لا تسمع ، وليس الغرض من ذلك نفي هذه الإدراكات عن حواسهم جملة وإنما الغرض نفيها في جهة ما كما تقول : فلان أصم عن الخنا .

ومنه قول مسكين الدارمي : [ الكامل أحذ مضمر ]

أعمى إذا ما جارتي خرجت*** حتى يواري جارتي السترُ

وأصم عمّا كان بينهما*** عمداً وما بالسمعِ من وَقْرِ

ومنه قول الآخر : [ الوافر ]

وعوراء الكلام صممت عنها*** ولو أني أشاء بها سميع

وبادرة وزعت النفس عنها*** وقد بقيت من الغضب الضلوع

ومنه قول الآخر في وصاة من يدخل إلى دار ملك : [ مخلع البسيط ]

وادخل إذا ما دخلت أعمى*** واخرج إذا ما خرجت أخرسْ

فكأن هؤلاء القوم لما لم ينفعهم النظر بالقلب ولا بالعين ولا ما سمعوه من الآيات والمواعظ استوجبوا الوصف بأنهم { لا يفقهون } و { لا يبصرون } و { لا يسمعون } وفسر مجاهد هذا بأن قال : لهم قلوب لا يفقهون بها شيئاً من أمر الآخرة وأعين لا يبصرون بها الهدى وآذان لا يسمعون بها الحق ، و { أولئك } إشارة إلى من تقدم ذكره من الكفرة وشبههم بالأنعام في أن الأنعام لا تفقه قلوبهم الأشياء ولا تعقل المقاييس ، وكذلك ما تبصره لا يتحصل لها كما يجب ، فكذلك هؤلاء ما يبصرونه ويسمعونه لا يتحصل لهم منه علم على ما هو به حين أبصر وسمع ، ثم حكم عليهم بأنهم { أضل } ، لأن الأنعام تلك هي بنيتها وخلقتها لا تقصر في شيء ولا لها سبيل إلى غير ذلك ، وهؤلاء معدون للفهم وقد خلقت لهم قوى يصرفونها وأعطوا طرقاً في النظر فهم بغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضل على هذا ، ثم بين بقوله : { أولئك هم الغافلون } الطريق الذي به صاروا أضل من الأنعام وهو الغفلة والتقصير .