أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة " البقرة " بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وقوله : { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } أي : والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد .
قال الضحاك في قوله : { ذِي الذِّكْرِ } كقوله : { لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } ] الأنبياء : 10 [ أي : تذكيركم . وكذا قال قتادة واختاره ابن جرير .
وقال ابن عباس ، وسعيد بن جبير وإسماعيل بن أبي خالد ، وابن عيينة وأبو حصين وأبو صالح والسدي { ذِي الذِّكْرِ } ذي الشرف أي : ذي الشأن والمكانة .
ولا منافاة بين القولين ، فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار .
واختلفوا في جواب هذا القسم فقال بعضهم : هو قوله : { إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } ] ص : 14[ . وقيل قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } ] ص : 64 ، حكاهما ابن جرير وهذا الثاني فيه بعد كبير ، وضعفه ابن جرير .
وقال قتادة : جوابه : { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } واختاره ابن جرير .
وقيل : جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها ، والله أعلم .
ثم حكى ابن جرير عن بعض أهل العلم أنه قال : جوابه " ص " بمعنى : صدق حق والقرآن ذي الذكر .
القول في تأويل قوله تعالى : { صَ وَالْقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ * بَلِ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزّةٍ وَشِقَاقٍ } .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى قول الله عزّ وجلّ : ص ، فقال بعضهم : هو من المصاداة ، من صاديت فلانا ، وهو أمر من ذلك ، كأن معناه عندهم : صادٍ بعملك القرآن : أي عارضه به ، ومن قال هذا تأويله ، فإنه يقرؤه بكسر الدال ، لأنه أمر ، وكذلك رُوي عن الحسن ذكر الرواية بذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن ص قال : حادث القرآن .
وحُدثت عن عليّ بن عاصم ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن ، في قوله : ص قال : عارض القرآن بعملك .
حدثت عن عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله : ص والقرآن قال : عارض القرآن ، قال عبد الوهاب : يقول اعرضه على عملك ، فانظر أين عملك من القرآن .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن إسماعيل ، عن الحسن أنه كان يقرأ : ص والقرآن بخفض الدال ، وكان يجعلها من المصاداة ، يقول : عارض القرآن .
وقال آخرون : هي حرف هجاء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أما ص فمن الحروف .
وقال آخرون : هو قسم أقسم الله به . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ص قال : قسم أقسمه الله ، وهو من أسماء الله .
وقال آخرون : هو اسم من أسماء القرآن أقسم الله به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ص قال : هو اسم من أسماء القرآن أقسم الله به .
وقال آخرون : معنى ذلك : صدق الله . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله : ص قال : صدق الله .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ، بسكون الدال ، فأما عبد الله بن أبي إسحاق فإنه كان يكسرها لاجتماع الساكنين ، ويجعل ذلك بمنزلة الاَداة ، كقول العرب : تركته حاثِ باثِ ، وخازِ بازِ يخفضان من أجل أن الذي يلي آخر الحروف ألف فيخفضون مع الألف ، وينصبون مع غيرها ، فيقولون حيث بيث ، ولأجعلنك في حيص بيص : إذا ضيق عليه . وأما عيسى بن عمر فكان يوفّق بين جميع ما كان قبل آخر الحروف منه ألف ، وما كان قبل آخره ياء أو واو فيفتح جميع ذلك وينصبه ، فيقول : ص وق ون ويس ، فيجعل ذلك مثل الاَداة كقولهم : ليتَ ، وأينَ وما أشبه ذلك .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا السكون في كل ذلك ، لأن ذلك القراءة التي جاءت بها قرّاء الأمصار مستفيضة فيهم ، وأنها حروف هجاء لأسماء المسميات ، فيعربن إعراب الأسماء والأدوات والأصوات ، فيسلك بهنّ مسالكهن ، فتأويلها إذ كانت كذلك تأويل نظائرها التي قد تقدم بيانناها قبل فيما مضى .
وكان بعض أهل العربية يقول : ص في معناها كقولك : وجب والله ، نزل والله ، وحقّ والله ، وهي جواب لقوله : والقُرآنِ كما تقول : حقا والله ، نزل والله .
وقوله : والقُرآنِ ذِي الذّكْرِوهذا قسم أقسمه الله تبارك وتعالى بهذا القرآن فقال : والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ذِي الذّكْرِ فقال بعضهم : معناه : ذي الشرف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : حدثنا أبو أحمد ، عن قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد ص والقُرآنِ ذِي الذّكْر قال : ذي الشرف .
حدثنا نصر بن عليّ وابن بشار ، قالا : حدثنا أبو أحمد ، عن مسعر ، عن أبي حصين ذِي الذكْرِ : ذي الشرف .
قال : ثنا أبو أحمد ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح أو غيره ذِي الذّكْرِ : ذي الشرف .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ قال : ذي الشرف .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن يحيى بن عُمارة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ص والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ ذي الشرف .
وقال بعضهم : بل معناه : ذي التذكير ، ذكّركمُ الله به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عن المسيب بن شريك ، عن أبي روق ، عن الضحاك ذِي الذّكْرِ قال : فيه ذكركم ، قال : ونظيرتها : لَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكُمْ كِتابا فِيهِ ذِكرُكُمْ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ذي الذّكْرِ : أي ما ذكر فيه .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : ذي التذكير لكم ، لأن الله أتبع ذلك قولَه : بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزّةٍ وَشِقاقٍ فكان معلوما بذلك أنه إنما أخبر عن القرآن أنه أنزله ذكرا لعباده ذكّرهم به ، وأن الكفار من الإيمان به في عزّة وشقاق .
واختلف في الذي وقع عليه اسم القسم ، فقال بعضهم وقع القسم على قوله : بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزّةٍ وَشِقاقٍ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزّةٍ قال : ها هنا وقع القسم .
وكان بعض أهل العربية يقول : «بل » دليل على تكذيبهم ، فاكتفى ببل من جواب القسم ، وكأنه قيل : ص ، ما الأمر كما قلتم ، بل أنتم في عزّة وشقاق . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : زعموا أن موضع القسم في قوله : إنْ كُلٌ إلاّ كَذّبَ الرّسُلَ . وقال بعض نحويي الكوفة : قد زعم قوم أن جواب والقُرآنِ قوله : إنّ ذلكَ لَحَقّ تَخاصُمُ أهْلِ النّارِ قال : وذلك كلام قد تأخر عن قوله : والقُرآنِ تأخرا شديدا ، وجرت بينهما قصص مختلفة ، فلا نجد ذلك مستقيما في العربية ، والله أعلم .
قال : ويقال : إن قوله : والقُرآنِ يمين اعترض كلام دون موقع جوابها ، فصار جوابها للمعترض ولليمين ، فكأنه أراد : والقرآن ذي الذكر ، لَكَمْ أهلكنا ، فلما اعترض قوله بَل الّذِينَ كَفَرُوا فِي عزّةٍ صارت كم جوابا للعزّة واليمين . قال : ومثله قوله : والشّمْسِ وضُحاها اعترض دون الجواب قوله : وَنَفْسٍ وَما سَوّاها فأَلْهَمَها فصارت قد أفلح تابعة لقوله : فألهمها ، وكفى من جواب القسم ، فكأنه قال : والشمس وضحاها لقد أفلح .
والصواب من القول في ذلك عندي ، القول الذي قاله قتادة ، وأن قوله : بَلْ لما دلّت على التكذيب وحلّت محلّ الجواب استغني بها من الجواب ، إذ عُرف المعنى ، فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك : ص والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ ما الأمر ، كما يقول هؤلاء الكافرون : بل هم في عزّة وشقاق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.