لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (1)

مقدمة السورة:

وتسمى سورة البينة ، وهي مدنية قاله الجمهور ، وفي رواية عن ابن عباس أنها مكية ، هي ثماني آيات ، وأربع وتسعون كلمة ، وثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفا .

قوله عزّ وجلّ : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني اليهود والنّصارى { والمشركين } أي ومن المشركين ، وهم عبدة الأوثان ، وذلك أن الكفار كانوا جنسين : أحدهما أهل كتاب ، وسبب كفرهم ما أحدثوه في دينهم ، أما اليهود فقولهم عزير ابن الله ، وتشبيههم الله بخلقه ، وأما النّصارى فقولهم المسيح ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وغير ذلك ، والثاني : المشركون أهل الأوثان الذين لا ينتسبون إلى كتاب الله ، فذكر الله الجنسين في قوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } أي منتهين عن كفرهم وشركهم ، وقيل : معناه زائلين { حتى تأتيهم } أي حتى أتتهم ، لفظه مضارع ومعناه الماضي { البينة } أي الحجة الواضحة ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أتاهم بالقرآن فبين لهم ضلالتهم وشركهم وما كانوا عليه من الجاهلية ، ودعاهم إلى الإيمان ، فآمنوا فأنقذهم الله من الجهالة والضّلالة ، ولم يكونوا منفصلين عن كفرهم قبل بعثه إليهم ، والآية فيمن آمن من الفريقين ، قال الواحدي في وسيطه : وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً ، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء .

قال الإمام فخر الدين في تفسيره : إنه لم يلخص كيفية الإشكال فيها ، وأنا أقول : وجه الإشكال أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرّسول ، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عماذاً ، لكنه معلوم ، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه ، فصار التقدير : لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة ، التي هي الرسول ، ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية ، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرّسول ، ثم قال بعد ذلك : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } ، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرّسول ، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والثانية مناقضة في الظاهر ، وهذا منتهى الإشكال في ظني ، قال : والجواب عنه من وجوه :

أولها : وأحسنها الوجه الذي لخصه صاحب الكشاف ، وهو أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب ، وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التّوراة والإنجيل ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فحكى الله تعالى عنهم ما كانوا يقولونه ، ثم قال { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } ، أي إنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول ، ونظيره في الكلام ما يقول الفاسق الفقير لمن يعظه : لست بمنفك مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى ، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقاً ، فيقول واعظه : لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر ، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار ، فيذكره ما كان يقول توبيخاً وإلزاماً . قال الإمام فخر الدين : وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد ، وهو أن قوله تعالى : لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة ، مذكور حكاية عنهم ، وقوله { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } إخبار عن الواقع ، والمعنى إن الذي وقع كان بخلاف ما ادعوا ، أو ثانيها أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة ، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال ؛ إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء ، وذكر وجوهاً أخر قال : والمختار هو الأول .