صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

{ ثم أورثنا الكتاب . . . } أي ثم جعلنا القرآن الذي أوحينا إليك : ميراثا منك لأمتك – التي اصطفينا على سائر الأمم ، وجعلناها أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس – ينتفعون به ، ويفقهون ما فيه من العلوم والأحكام والمواعظ والأمثال ؛ بالذات كالعلماء الراسخين ، أو بالواسطة كغيرهم . و " ثم " للتراخي الزماني . والمراد ب " الذين اصطفينا " أمة الإجابة . وفي التعبير بالاصطفاء تنويه بفضلها على سائر الأمم . ثم قسمها الله تعالى إلى ثلاث أنواع : أشار إلى الأول بقوله تعالى : { فمنهم ظالم لنفسه } بارتكاب صغائر الذنوب المؤدى إلى نقصانه من الثواب . وإلى الثاني بقوله : { ومنهم مقتصد } معتدل في أمر الدين ، لا يميل إلى إفراط ولا إلى تفريط . وإلى الثالث بقوله : { ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله } وهو السابق لغيره في أمور الدين . وقيل الظالم : من رجحت سيئاته على حسناته . والمقتصد : من استوت حسناته وسيئاته . والسابق : من رجحت حسناته على سيئاته ؛ وكلهم من أهل الجنة .

{ ذلك } أي توريث الكتاب لمن اصطفيناه .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 32 ) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 33 ) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( 34 ) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } .

المراد بالكتاب في الآية ، كل كتاب أنزله إلى عباده . وقيل : المراد به القرآن الحكيم ؛ فقد اصطفى الله من عباده هذه الأمة المباركة الفضلى ؛ لتقوم بكتابه الحكيم فتبشر الناس بعلومه وأخباره وأحكامه ، وما تضمنه للعالمين من منهج قويم تهتدي به البشرية ، لتحيى به آمنة مطمئنة ، مبرأة من الأمراض والمفاسد والشرور ، ثم قسَّم الله هذه الأمة من حيث احتمالها لكتابه الحكيم ومدى التزامها بشريعته وأحكامه فجعلهم أصنافا ثلاثة .

أما الصنف الأول : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } واختلفوا في تأويله . فقيل : ذلكم المفرِّط في دينه ، المخالف أمر ربه . وقيل : الكافر أو الفاسق . وقيل : هو المؤمن العاصي . وهو الأولى بالصواب ؛ لأن الكافرين المفرطين الفاسقين عن أمر الله لا يكونون في زمرة المسلمين الذين اصطفاهم الله لحمل كتابه وتبليغه للناس .

وأما الصنف الثاني : { وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } عرّفه ابن كثير رحمه الله بقوله : هو المؤدي للواجبات ، التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات .

وأما الصنف الثالث : { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } وهو الذي يفعل الواجبات والمندوبات ولا يأتي المناهي والمكروهات قال ابن عباس في تأويل قوله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ } الآية : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ورَّثهم الله كل كتاب أنزله ، فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقُهم يدخلُ الجنة بغير حساب .

وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه قال في ذلك : هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة : ثلث يدخلون الجنة بغير حساب . وثلث يحاسَبون حسابا يسيرا ، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول ما هؤلاء – وهو أعلم تبارك وتعالى – فتقول الملائكة : هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يُشركوا بك فيقول الرب : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي .

قوله : { ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } { ذَلِكَ } ، في موضع رفع مبتدأ . وخبره { الْفَضْلُ } و { هو } ضمير فصل بين المبتدأ وخبره . و { الْكَبِيرُ } صفة للخبر . ويجوز أن يقال : { ذَلِكَ } ، مبتدأ أول . و { هو } مبتدأ ثان . و { الفضل } خبر المبتدأ الثاني . والمبتدأ الثاني وخبره ، خبر عن المبتدأ الأول{[3871]} .

والمعنى : أن إيتاء الكتاب لهذه الأمة فضل كبير من الله لهم . ما وعدهم الله به جميعا من الجنة له فضل من الله كبير . وقيل : الإشارة عائدة إلى السابق بالخيرات . فسَبْقُهُ بالخيرات وما أعده الله له من عظيم الجزاء لهو فضل من الله كبير فٌضِّلَ به على من دونه في المنزلة .


[3871]:البيان لابن الأنباري ج 2 ص 288