صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وآياتها ثلاث .

بسم الله الرحمان الرحيم

إنا أعطيناك الكوثر ( 1 ) فصل لربك وانحر ( 2 ) إن شانئك هو الأبتر ( 3 )

سورة الكوثر

وتسمى سورة النحر ، وهي أقصر سورة في القرآن .

{ إن أعطيناك الكوثر } امتن الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بإعطائه الكوثر ؛ أي بتخصيصه به وبأمته يوم القيامة . وهو كما في صحيح البخاري : نهر في الجنة . وقيل : هو حوضه صلى الله عليه وسلم في المحشر . وقيل : هو امتنان بإعطائه الخير الكثير ، والنعم الدنيوية والأخروية من الفضائل . فيندرج في ذلك : النهر والحوض ، والنبوة والحكمة ، والقرآن وسائر المعجزات ، والخلق العظيم ورفعة الذكر ، والنصر على الأعداء وكثرة الفتوحات ، وإظهار الإسلام على الأديان ، وكثرة الأصحاب والأتباع ، والمقام المحمود وهو الشفاعة العظمى يوم القيامة . وتفسيره في الحديث بالنهر إنما هو من باب التمثيل . والكوثر : فوعل من الكثرة ؛ مثل النوفل من النفل ، ومعناه : الشيء البالغ في الكثرة حد الإفراط ، والعرب تسمي كل شيء في كثير في العدد ، أو كثير القدر والخطر : كوثرا .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية ، في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل . ومدنية ، في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة . وهي ثلاث آيات .

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر } قراءة العامة . { إنا أعطيناك } بالعين . وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف : " أنطيناك " بالنون ، وروته أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي لغة في العطاء ، أنطيته : أعطيته . و " الكوثر " : فوعل من الكثرة ، مثل النوفل من النفل ، والجوهر من الجهر . والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا . قال سفيان : قيل لعجوز رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك ؟ قالت بكوثر ، أي بمال كثير . والكوثر من الرجال : السيد الكثير الخير . قال الكميت :

وأنت كثير يا ابنَ مروانَ طَيِّبٌ *** وكان أبوك ابنُ العقائل كَوْثَرَا{[16486]}

والكوثر : العدد الكثير من الأصحاب والأشياع . والكوثر من الغبار : الكثير . وقد تكوثر إذا كثر ، قال الشاعر :

وقد ثار الموتُ حتى تكَوْثَرَا

الثانية : واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم على ستة عشر قولا : الأول : أنه نهر في الجنة ، رواه البخاري عن أنس والترمذي أيضا ، وقد ذكرناه في كتاب التذكرة . وروى الترمذي أيضا عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكوثر : نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل ، وأبيض من الثلج " . هذا حديث حسن صحيح . الثاني : أنه حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف ، قاله عطاء . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : بينما{[16487]} نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أغفى إغفاءة ، ثم رفع رأسه متبسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : نزلت علي آنفا سورة - فقرأ - بسم الله الرحمن الرحيم : { إنا أعطيناك الكوثر . فصل لربك وأنحر . إن شانئك هو الأبتر } - ثم قال - " أتدرون ما الكوثر " ؟ قلنا : الله ورسول أعلم . قال : " فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل ، عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم ، فيختلج{[16488]} العبد منهم فأقول : إنه من أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدث بعدك " .

والأخبار في حوضه في الموقف كثيرة ، ذكرناها في كتاب " التذكرة " . وأن على أركانه الأربعة خلفاءه الأربعة ، رضوان الله عليهم . وأن من أبغض واحدا منهم لم يسقه الآخر ، وذكرنا هناك من يُطرد عنه . فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك . ثم يجوز أن يسمى ذلك النهر أو الحوض كوثرا ، لكثرة الواردة والشاربة من أمة محمد عليه السلام هناك . ويسمى به لما فيه من الخير الكثير والماء الكثير .

الثالث : أن الكوثر النبوة والكتاب . قاله عكرمة .

الرابع : القرآن . قاله الحسن .

الخامس : الإسلام . حكاه المغيرة .

السادس : تيسير{[16489]} القرآن وتخفيف الشرائع . قاله الحسين بن الفضل .

السابع : هو كثرة الأصحاب والأمة والأشياع . قاله أبو بكر بن عياش ويمان بن رئاب .

الثامن : أنه الإيثار . قاله ابن كيسان .

التاسع : أنه رفعة الذكر . حكاه الماوردي .

العاشر : أنه نور في قلبك دلك علي ، وقطعك عما سواي .

وعنه : هو الشفاعة ، وهو الحادي عشر .

وقيل : معجزات الرب هدي بها أهل الإجابة لدعوتك ، حكاه الثعلبي ، وهو الثاني عشر .

الثالث عشر : قال هلال بن يساف : هو لا إله إلا الله محمد رسول الله .

وقيل : الفقه في الدين . وقيل : الصلوات الخمس ، وهما الرابع عشر والخامس عشر .

وقال ابن إسحاق : هو العظيم من الأمر ، وذكر بيت لبيد :

وصاحب مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بفَقْدِهِ *** وعند الرَّدَاعِ بيت آخرَ كوثَرُ

أي عظيم{[16490]} .

قلت : أصح هذه الأقوال الأول والثاني ؛ لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الكوثر . وسمع أنس قوما يتذاكرون الحوض فقال : ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض ، لقد تركت عجائز خلفي ، ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي صلى الله عليه وسلم . وفي حوضه يقول الشاعر :

يا صاحبَ الحوضِ من يُدَانِيكَا *** وأنتَ حَقًّا حبيبُ بارِيكَا

وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيره قد أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على حوضه ، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا .


[16486]:هذا عجز بيت لحسان بن نشبة. وصدره كما في اللسان: * أبوا أن يبيحوا جارهم لعدوهم *
[16487]:في صحيح مسلم طبع الأستانة وبولاق: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى... " الحديث.
[16488]:أي ينتزع ويقتطع.
[16489]:في بعض نسخ الأصل: "تسهيل".
[16490]:ملحوب: ماء لبني أسد بن خزيمة. وصاحبه: عوف بن الأحوص. والرادع (بالكسر): اسم ماء أيضا. والكوثر أيضا: السيد الكثير الخير.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

لما كانت سورة الدين بإفصاحها ناهية عن مساوئ الأخلاق ، كانت بإفهامها داعية إلى معالي الشيم ، فجاءت الكوثر لذلك ، وكانت الدين قد ختمت بأبخل البخلاء وأدنى الخلائق : المنع تنفيراً من البخل ومما جره من التكذيب ، فابتدئت الكوثر بأجود الجود : العطاء لأشرف الخلائق ترغيباً فيه وندباً إليه ، فكان كأنه قيل : أنت يا خير الخلق غير متلبس بشيء مما نهت عنه تلك المختتمة بمنع الماعون : { إنا } بما لنا من العظمة ، وأكد لأجل تكذيبهم : { أعطيناك } أي خولناك مع التمكين العظيم ، ولم يقل : آتيناك ، لأن الإيتاء أصله الإحضار ، وإن اشتهر في معنى الإعطاء { الكوثر * } الذي هو من جملة الجود على المصدقين بيوم الدين .

ولما كان كثير الرئيس أكثر من كثير غيره ، فكيف بالملك فكيف بملك الملوك ؟ فكيف إذا أخرجه في صيغة مبالغة ؟ فكيف إذا كان في مظهر العظمه ؟ فكيف إذا بنيت الصيغة على الواو الذي له العلو والغلبة ؟ فكيف إذا أتت إثر الفتحة التي لها من ذلك مثل ذلك ؛ بل أعظم ؟ كان المعنى : أفضنا عليك وأبحناك من كل شيء من الأعيان والمعاني ، من العلم والعمل ، وغيرهما ، من معادن الدارين ومعاونهما ، الخير الذي لا غاية له ، فلا يدخل تحت الوصف ، فأغنيناك عن أن تؤثر بذلك ، أو توفر مالك بجلب نفع أو دفع ضر ، ومنه النهر الذي في الجنة ، ويسقي المؤمنين من الحوض الممدود منه في المحشر الذي مثاله في الدنيا شريعته صلى الله عليه وسلم التي عراها وأسبابها عدد النجوم الذين هم علماء أمته المقتدى بهم ، فقد اجتمع لك الغبطتان : أشرف العطاء من أكرم المعطين وأعظمهم .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما نهى عباده عما يلتذ به من أراد الدنيا وزينتها من الإكثار والكبر والتعزز بالمال والجاه وطلب الدنيا ، أتبع ذلك بما منح نبيه مما هو خير مما يجمعون ، وهو الكوثر وهو الخير الكثير ، ومنه الحوض الذي ترده أمته في القيامة ، لا يظمأ من شرب منه ، ومنه مقامه المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون عند شفاعته العامة للخلق وإراحتهم من هول الموقف ، ومن هذا الخير ما قدم له في دنياه من تحليل الغنائم ، والنصر بالرعب ، والخلق العظيم ، إلى ما لا يحصى من خيري الدنيا والآخرة مما بعض ذلك خير من الدنيا وما فيها ؛ إذ لا تعدل الدنيا وما فيها واحدة من هذه العطايا

{ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }[ يونس : 58 ] ومن الكوثر والخير الذي أعطاه الله كتابه المبين ، الجامع لعقل الأولين والآخرين ، والشفاء لما في الصدور .

ولما كمل له سبحانه من النعم ما لا يأتي عليه حصر مما لا يناسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها ، قال مبيناً له منبهاً على عظيم ما أعطاه{ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا }[ الحجر : 88 ] إلى قوله { ورزق ربك خير وأبقى } فقد اضمحل في جانب نعمة الكوثر الذي أوتي كلُّ ما ذكره الله تعالى في الكتاب من نعيم أهل الدنيا ، وتمكن من تمكن منهم ، وهذا أحد موجبات تأخير هذه السورة ، فلم يقع بعدها ذكر شيء من نعيم الدنيا ، ولا ذكر أحد من المتنعمين بها لانقضاء هذا الغرض وتمامه ، وسورة الدين آخر ما تضمن الإشارة إلى شيء من ذلك كما تقدم من تمهيد إشاراتها ، وتبين بهذا وجه تعقيبها بها - والله تعالى أعلم - انتهى .