قوله تعالى : " إنا أنذرناكم عذابا قريبا " يخاطب كفار قريش ومشركي العرب ؛ لأنهم قالوا : لا نبعث . والعذاب عذاب الآخرة ، وكل ما هو آت فهو قريب ، وقد قال تعالى : " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها " [ النازعات : 46 ] قال معناه الكلبي وغيره . وقال قتادة : عقوبة الدنيا ؛ لأنها أقرب العذابين . قال مقاتل : هي قتل قريش ببدر . والأظهر أنه عذاب الآخرة ، وهو الموت والقيامة ؛ لأن من مات فقد قامت قيامته ، فإن كان من أهل الجنة رأى مقعده من الجنة ، وإن كان من أهل النار رأى الخزي والهوان ؛ ولهذا قال تعالى : " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه " بين وقت ذلك العذاب ، أي أنذرناكم عذابا قريبا في ذلك اليوم ، وهو يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، أي يراه{[15762]} ، وقيل : ينظر إلى ما قدمت فحذف إلى . والمرء ها هنا المؤمن في قول الحسن ، أي يجد لنفسه عملا ، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملا ، فيتمنى أن يكون ترابا . ولما قال : " ويقول الكافر " علم أنه أراد بالمرء المؤمن . وقيل : المرء ها هنا : أبي خلف وعقبة بن أبي معيط . " ويقول الكافر " أبو جهل . وقيل : هو عام في كل أحد وإنسان يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسب . وقال مقاتل : نزلت قوله : " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه " في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي : " ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا " : في أخيه الأسود بن عبد الأسد . وقال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الكافر : ها هنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب ، وافتخر بأنه خلق من نار ، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة ، والرحمة ، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب ، تمنى أنه يكون بمكان آدم ، فيقول : " يا ليتني كنت ترابا " قال : ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر . وقيل : أي يقول إبليس يا ليتني خلقت من التراب ولم أقل أنا خير من آدم . وعن ابن عمر : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم ، وحشر الدواب والبهائم والوحوش ، ثم يوضع القصاص بين البهائم ، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء بنطحتها ، فإذا فرغ من القصاص بينها قيل لها : كوني ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر : " يا ليتني كنت ترابا " . ونحوه عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم . وقد ذكرناه في كتاب " التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة " ، مجودا والحمد لله . ذكر أبو جعفر النحاس : حدثنا أحمد بن محمد بن نافع ، قال حدثنا سلمة بن شبيب ، قال حدثنا عبد الرازق ، قال حدثنا معمر ، قال أخبرني جعفر بن برقان الجزري ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة ، قال : إن الله تعالى يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان ، ثم يقال للبهائم والطير كوني ترابا ، فعند ذلك " يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا " . وقال قوم : " يا ليتني كنت ترابا " : أي لم أبعث ، كما قال : " يا ليتني لم أوت كتابيه " . وقال أبو الزناد : إذا قضي بين الناس ، وأمر بأهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجن : عودوا ترابا ، فيعودون ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم " يا ليتني كنت ترابا " . وقال ليث بن أبي سليم : مؤمنو الجن يعودون ترابا . وقال عمر بن عبد العزيز والزهري والكلبي ومجاهد : مؤمنو الجِنَّة حول الجَنة في ربض ورحاب وليسوا فيها . وهذا أصح ، وقد مضى في سورة " الرحمن " {[15763]} بيان هذا ، وأنهم مكلفون : يثابون ويعاقبون ، فهم كبني آدم ، والله أعلم بالصواب .
{ عذابا قريبا } يعني : عذاب الآخرة ووصفه بالقرب لأن كل آت قريب أو لأن الدنيا على آخرها . { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } المرء هنا عموم في المؤمن والكافر ، وقيل : هو المؤمن وقيل : هو الكافر والعموم أحسن لأن كل أحد يرى ما عمل لقوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة } [ الزلزلة : 7 ] .
{ ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ) تمنى أن يكون يوم القيامة ترابا فلا يحاسب ولا يجازى ، وقيل : تمنى أن يكون في الدنيا ترابا أي : لم يخلق ، وروي : أن البهائم تحشر ليقتص لبعضهم من بعض ثم ترد ترابا فيتمنى الكافر أن يكون ترابا مثلها ، وهذا يقوي الأول ، وقيل : الكافر هنا إبليس يتمنى أن يكون خلق من تراب مثل آدم وذريته لما رأى ثوابهم وقد كان احتقر التراب في قوله : { خلقتني من نار وخلقته من طين } [ الأعراف : 12 ] .
ولما قدم في هذه السورة من شرح هذا النبأ العظيم ما قدم من الحكم والمواعظ واللطائف والوعد والوعيد ، لخصه في قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب : { إنا } على ما لنا من العظمة { أنذرناكم } أي أيها الأمة وخصوصاً العرب بما مضى من هذه السورة وغيرها { عذاباً } ولما كان لا بد من إتيانه وكونه سواء كان بالموت أو بالبعث ، وكان كل ما تحقق إتيانه أقرب شيء قال : { قريباً } .
ولما حذر منه ، عين وقته مشدداً لتهويله فقال-{[71262]} : { يوم ينظر المرء } أي جنسه الصالح منه والطالح نظراً لا مرية فيه{[71263]} { ما } أي الذي { قدمت {[71264]}يداه } أي كسبه{[71265]} في الدنيا من خير وشر ، وعبر بهما لأنهما محل القدرة فكنى بهما عنها{[71266]} مع أن أكثر ما يعمل كائن بهما مستقلتين به أو مشاركتين فيه خيراً كان{[71267]} أو شراً . ولما كان التقدير : فيقول المؤمن : يا ليتني قمت قبل هذا ، عطف عليه قوله : { ويقول الكافر } أي العريق في الكفر عندما يرى من تلك-{[71268]} الأهوال متمنياً محالاً : { يا ليتني كنت } أي كوناً لا بد منه ولا يزول { تراباً * } أي في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف ، أو{[71269]} في هذا اليوم فلم أعذب ، والمراد به الجنس أو إبليس الذي تكبر عن السجود لآدم عليه السلام المخلوق من التراب ، وعظم نفسه بالحسد والافتخار بكونه مخلوقاً من نار ، يقول ذلك عندما يرى ما {[71270]}أعد الله{[71271]} لآدم عليه السلام ولخواص{[71272]} بنيه من الكرامة {[71273]}من النعيم المقيم ، ولهذا المتكبر على خالقه من العذاب الدائم الذي لا يزول{[71274]} ، وعن أبي هريرة و{[71275]}ابن عمر رضي الله عنهم أن الله تعالى يقتص{[71276]} يوم البعث للبهائم بعضها من بعض ثم يقول لها : كوني تراباً ، فتكون فيتمنى الكافر{[71277]} مثل ذلك{[71278]} . فقد علم أن ذلك اليوم في غاية العظمة وأنه لا بد{[71279]} من كونه ، فعلم أن التساؤل عنه للتعجب من{[71280]} كونه من أعظم الجهل ، فرجع آخرها على أولها ، وانعطف مفصلها أي انعطاف على موصلها ، واتصل مع ذلك بما بعدها أي اتصال ، فإن المشرف بالنزع على{[71281]} الموت يرى كثيراً من الأهوال والزلازل والأوجال التي يتمنى لأجلها أنه كان منقطعاً عن الدنيا ليس له بها وصال يوماً من الأيام ولا ليلة من الليال - والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب .
فقد علم أن ذلك اليوم في غاية العظمة وأنه لا بد من كونه ، فعلم أن التساؤل عنه للتعجب من كونه من أعظم الجهل ، فرجع آخرها على أولها ، وانعطف مفصلها أي انعطاف على موصلها ، واتصل مع ذلك بما بعدها أي اتصال ، فإن المشرف بالنزع على الموت يرى كثيراً من الأهوال والزلازل{[1]} والأوجال التي يتمنى لأجلها أنه كان منقطعاً عن الدنيا ليس له{[2]} بها وصال يوماً من الأيام ولا ليلة من الليال{[3]} - والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب{[4]} .