تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (191)

الآية 191 وقوله تعالى : ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) قيل : لفظ : حيث{[2226]} يعبر عن المكان ، ففيه إذن بقتلهم في جميع الأمكنة ، وفي تعميم الأمكنة تعميم الأوقات ، فهو على عموم المكان إلا فيما استثنى من المسجد الحرام مطلقا . وأما قوله : ( يسألونك عن الشهر الحرام ) [ البقرة : 217 ] فالاستثناء فيه مقيد ، فلا يخرج عن ذلك العام ، والله أعلم . ثم منهم من جعل لهم القتال في الحرم وفي أشهر الحج بظاهر هذه الآية ، ومنهم من قال : لا يقتل فيهما جميعا .

وقال أصحابنا ، رحمهم الله تعالى : نقاتل{[2227]} في الأشهر الحرم ، ولا نقاتل في الحرم إلا أن [ يبدأ العدو ]{[2228]} بالقتال ، فحينئذ نقاتل{[2229]} . وكذلك يقولون في من قتل آخر ، ثم التجأ إلى الحرم : لم يقتل فيه ، ولكن لا يؤاكل ، ولا يشارب ، ولا يجالس حتى يضطر ، فيخرج ، فيقتل ، وإذا قتل في الحرم يقتل . فعلى ذلك لا يقاتل في الحرم إلا أن [ يبدأ العدو ]{[2230]} به ، وإن كان{[2231]} ظاهر قوله : ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) يبيح القتل في الأمكنة كلها ، بقوله : ( ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ) استثنى الحرم دون غيره من الأماكن . وأما قوله : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) ظاهر هذه الآية يحرم القتال في أشهر الحج ، لكن فيه دليل حل القتال بقوله : ( والفتنة أكبر من القتل ) [ البقرة : 217 ] يعني بالفتنة الشرك ؛ جعل القتل فيه كبيرا ، ثم أخبر أن الشرك فيه أكبر وأعظم من القتل .

فالأصل عندنا أن الابتلاء ، إذا كان ، من وجهين : يختار الأيسر منهما والأخف ؛ فلذلك قلنا : إنه يختار القتل في الحرم على بقاء الفتنة ، وهو الشرك ، إذ هو أكبر وأعظم ، والله أعلم .

وقوله : ( وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) ؛ يحتمل قوله : ( وأخرجوهم ) من مكة كما أخرجوكم عام الحديبية ، ويحتمل أن أمرهم بأن يضيفوا عليهم ، ويضطروهم إلى الخروج كما فعل أهل مكة بهم ، ويحتمل الإخراج على ما جاء : " ألا لا يحجن مشرك بعد عامي هذا " [ البخاري : 369 ] ، ويحتمل أن يمنعوهم عن الدخول فيه . كقوله تعالى : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ التوبة : 28 ] ، وكقوله : ( يخرجهم من الظلمات إلى النور ) [ البقرة : 257 ] : المنع عن الشرك إخراجا .

وقوله : ( والفتنة أشد من القتل ) أي الشرك أعظم جرما عند الله من القتل فيه .

وقوله : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ) كما ذكرنا أن هذا وقوله : ( واقتلوهم ) [ البقرة : 191 و النساء : 89 ] كله يخرج على المجازاة لهم . وفيه لغة أخرى : ولا تقتلوهم{[2232]} عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم . [ وقيل ]{[2233]} : فإن قتلونا ، لا سبيل لنا أن نقتلهم ، فما معنى هذا قيل : يحتمل قوله : ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم . أي إذا قتلوا واحدا منكم فحينئذ تقتلونهم ، أو لا تقتلوهم حتى يبدؤوا هم{[2234]} بقتلكم ، أو أن يقول : لا تقتلوهم حتى يقتلوا بعضكم ، فإذا فعلوا ذلك فحينئذ تقتلونهم والله أعلم .

وقوله : ( كذلك جزاء الكافرين ) أي هكذا جزاء من لم يقبل نعم الله ، ولم يستقبلها بالشكر ، ويحتمل ( كذلك جزاء ) من بدأ بالقتال في الحرم أن يقتل .


[2226]:- من ط ع، في الأصل و م: الحيث.
[2227]:- في النسخ الثلاث: يقتل.
[2228]:- في النسخ الثلاث: يبدأهم.
[2229]:- في النسخ الثلاث: يقتلهم.
[2230]:- من م و ط ع، في الأصل: يبداؤهم.
[2231]:- في ط ع: كل
[2232]:- هذه قراءة حمزة والكسائي، انظر حجة القراءات ص 127.
[2233]:- من ط ع.
[2234]:- ساقطة من ط ع.