تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

الآية 49

وقوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } قيل : هم اليهود جاؤوا بأبنائهم أطفالا ، فقالوا : يا محمد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب ؟ قال : لا ، قالوا : فوالذي نحلف {[5719]}به ما نحن إلا تزكيتهم ؛ ما من ذنب نعمله بالنهار إلا عفر عنا بالليل ، وما علمنا بالليل إلا كفر عنا بالنهار ، فذلك التزكية منهم . ويقل : تزكيتهم أنفسهم بقولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه }( المائدة : 18 ) لاذنوب لنا . ويحتمل أن تكون تزكيتهم أنفسهم ما قال عز وجل{ يا بني إسرائيل اذكروا التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين } ( البقرة : 47و122 ) . وكان أكثر الأنبياء ، عليهم السلام ، إنما بعثوا من بني إسرائيل ، وكانوا يزكون أنفسهم بذلك . فقال{[5720]} عز وجل : بل الله يزكي من يشاء } يفضل من يشاء أو يبرئ من الذنوب .

ثم التزكية تذم : أن يزكي أحد نفسه ، لأن التزكية ، هي التنزيه من العيوب كلها أو الذنوب ، وذلك مما لا يسلم أحد منها ، ولا يبرأ ، ولا يستحق مخلوق ، وذلك معنى النهي : { فلا تزكوا أنفسكم } ( النجم : 32 ) ، إذ تخرج التزكية مخرج التكبر ، وذلك لجهله بنفسه بما لا يرى غيره شكل نفسه ولا مثله ، فتكبر عليه . ولو عرف أنه مثله وشكله وما تكبر على أحد قط ، ولا تزكى نفسه . وقوله الرجل : أنا مؤمن ليس ذلك تزكية إنما هو إخبار عن شيء أكبره به ، والتزكية هي التي يرى ذلك من نفسه .

وقوله تعالى : أيضا : { ألم ترى إلى الذين يزكون أنفسهم } ليس في إظهار الإيمان تزكية لما لا يخلو من أن تظهر لمن أبى مشاركتك فيه ، فعليك الإظهار بحق الدعوة إليه لتدعوه إلى ما تدين به ، أو هو يشاركك فيه ، والتزكية في الحقيقة في ما يوجب تقديمك ، وليس في هذا ، وأيضا إن القول بالإيمان ليس بمقدر عن معنى العبادة أو سبب ، فيه علو من حيث ذلك ، إنما هو خبر عن أمر ، هي في اللغة تصديق بأمر هو ذلك ، ليس بالذي يعد في الرتب ، بل على كل ذلك ، ولا أحد إلا وقد يؤمن بأشياء تصدق ، فليس في القول به منقبة .

وكذلك ما من أحد إلا وعيه التكذيب بأمور ، فلا بالتكذيب في الإطلاق لوم ، ولا بالتصديق بالإطلاق مدح ، إذ في كل ذلك ، لمن لزم في تكذيب بهن فيكون من حيث كذلك ذممت . ثم يتفاوت على تفاوت درجات الكذب . ثم التصديق لو كان ثم مدح ، فهو يصدق كله ، فيصير المرء بوصفه نفسه صادقا في شيء تزكية ومدحا ، ولا قوة إلا بالله .

على أن للإيمان حدا ، وكل عبادة ذات حد ، فلا امتداح ممن قد أداها بالاختيار عن الأداء ولخاصة {[5721]} الفرائض منها ، نحو : من يقول : أنا{[5722]} بر أو تقي أو حبيب الله تعالى ، أو نحو ذلك إلى ما لا يعرف حده من الخيرات ، فهو بذلك يرتفع على الأشكال ، ويفتخر عليهم ، في ما لو كان صادقا كان منه إغفال عن حق ذلك . ولو كان كاذبا [ كان جائرا ]{[5723]}ممقوتا بالكذب ، والله الموفق .

وقوله تعالى : { ولا يظلمون فتيلا }عن ابن عباس رضي الله عنه ، [ أنه ]{[5724]} قال : ( الفتيل ما فتلت بين إصبعيك ، والنقير الذي يكون في ظهر النواة ، وهو على التمثيل ) . وقيل في حرف حفصة : ألم تر إلى الذين قالوا : إنا نزكي أنفسنا ؟ بل الله يزكي من يشاء .


[5719]:من م، في الأصل: علمنا.
[5720]:في الأصل وم: قوله.
[5721]:من م، في الأصل:ولخصاصه.
[5722]:في الأصل وم: هو.
[5723]:في الأصل: ذلك جائزا في ولخاصة، في م: ذلك جائزا فيه كان.
[5724]:في الأصل وم:هو.