تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَمَا تَنفَعُهُمۡ شَفَٰعَةُ ٱلشَّـٰفِعِينَ} (48)

الآية48 : وقوله تعالى : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } معناه : أن لا شفيع لهم .

والأصل أن الشفاعة إذا أضيفت إلى أهل الكفر ، فقيل : ليس لهم شفعاء ، أولا تنفعهم شفاعة الشافعين ، اقتضى نفي الشفاعة ، أي لا شفيع لهم .

وإذا أضيفت إلى أهل الإيمان اقتضى ثبوت{[22720]} الانتفاع بشفاعة الشفعاء ، ولم يقتض نفس الشفاعة كما ذكرنا أن الأفعال التي يكون قوامها بالإيمان ، إذا أضيفت إلى الكفار ، فهي تقتضي نفي القبول ، وإذا أضيفت إلى أهل الإيمان ، فهي تقتضي ثبوت{[22721]} الفعل .

وقولنا بأنه إذا قيل : لا شفيع له ، وأريد به أهل الإسلام ، فهو يقتضي ثبوت{[22722]} الشفاعة ، فذلك ينصرف عندنا إلى أهل الاعتزال والخوارج لأنا نرى أصحاب الكبائر من أهل الإسلام مستوجبين/ 614 – أ/ للشفاعة ، وهم يقولن : لا يجوز في حكم الله تعالى أن يعفو عن أصحاب الكبائر ، بل يخلدهم في النار ، لأن الله تعالى أوعد النار لمن ارتكب الكبائر أنهم يخلدون فيها ، فلا يجوز أن يقع في وعده خلف ، ويتحقق في خبره كذب . ولو استوجب الشفاعة ، ونالوا بها المغفرة من رب العزة لصار في ما وعد مخلفا وفي ما أخبر كذوبا .

فمثل هؤلاء إذا ارتكبوا الكبائر لا يرجى لهم الخلاص بالشفاعة أبدا ، بل يحكم عليهم بالخلود في النار ، فيرتفع ما يثبت الكذب ، وينتفي ما يوجب خلف وعد . ولأنهم لما اعتقدوا التخليد في النار لمن ارتكب الكبائر وجب أن يكون نفيهم الشفاعة بزعمهم على ذلك لأن الله تعالى يقول : { كما بدأكم تعودون }{ فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة }[ الأعراف : 29و30 ] فلا يجوز[ [ أن يحل ]{[22723]}عليهم العذاب ، ثم لا ينالهم العذاب إذا بعثوا .

ثم احتج فريق منهم بنفي الشفاعة في الآخرة بقوله تعالى : { فما لنا من شافعين }[ الشعراء : 100 ] وبقوله : { أنفقوا مما رزقكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة }[ البقرة : 254 ] وبقوله : { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يُقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة }[ البقرة : 123 ] .

وزعموا أن شفيع كل امرئ منهم عمله يومئذ ؛ فمن حسن عمله يجز به ، ومن ساء عمله حق عليه العذاب ، ولم يكن له شافع .

ولو وجب نفي الشفاعة بما ذكر من هذه الآيات الظاهر لوجب تحقيقها بقوله تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون }[ الأنبياء : 28 ] وبقوله : { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا }[ طه : 109 ] إذ في هاتين الآيتين أن الله تعالى قد يأذن بالشفاعة يومئذ للبعض ، فثبت أن ما ذكرتم من نفي الشفاعة لم يقتض نفيا على الإطلاق ، بل النفي انصرف إلى بعض الخلائق ، ووجب قبول ثبوتها لبعضهم .

ثم جاءت الأخبار مفسرة على إيجاب القبول بالشفاعة لأهل الكبائر ، فثبت أن ما ذكر من قوله عز وجل : { فما لنا من شافعين }[ الشعراء : 100 ] وقوله : { ولا خلة ولا شفاعة }[ البقرة : 254 ] منصرف إلى أهل الكفر ، وبه نقول .

ومن المعتزلة من يحقق الشفاعة ، ولكنه يراها للذين يستوجبون استغفار الملائكة في الدنيا ، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه : { ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك }[ غافر : 7 ] .

وأما أصحاب الكبائر فإنهم لا تنالهم شفاعة أحد ، بل يخلدون في النار .

فيقال لهم : فأي منفعة تحصل للذين تابوا ، واتبعوا سبيله في الشفاعة ، وهم قد استوجبوا الخلاص بتوبتهم واتباعهم سبيل الرشاد .

فإن قالوا : منفعتهم بها أنهم{[22724]} لعظم قدرهم عند الله يستوجبون بها الدرجات كما ترى المرء في الشاهد يذكر أخاه عند الملوك بحسن السيرة ، ويذكره بما فيه من المناقب الجميلة والمحاسن ، ويبتغي بذلك إعلاء منزلته وإعظام قدره عندهم ليُعظّموه ، ويُبجّلوه .

فكذلك الشفعاء في الآخرة يثنون عند الله تعالى على أوليائه خيرا ليزيد في درجاتهم ، وتعظم منزلتهم عند الله تعالى .

والجواب أن هذه الزيادة في الدرجات ليست إلا إلى الوصول إلى فضول الشهوات ، وفضول الشهوات والزيادة في اللذات لا تذكر في المنافع ؛ إذ لا حاجة لهم إلى ما هو في حق الفضول من الشهوات ، فيكون في مثالها وقع الحاجة والوصول إلى المنفعة .

ومعلوم بأنهم إنما أطمعوا في الشفاعة ، وإنما تحصل لهم بها المنفعة ، إذا وقعت إليها الحاجة .

وأهل الكبائر هم الذين تمسهم الحاجة إليها . فأما الذين تابوا ، وأنابوا ، فقد استغنوا عن الشفاعة . لذلك وجب القول بتحقيق الشفاعة في أهل الكبائر .

وأما استدلالهم بما ذكروا من أمر الشهود فليس بمحكم من القول لأن المرء إنما يذكر أخاه بالجميل ، ويظهر ما اشتمل عليه من خلال الخير لجهل الملوك بحاله في ما هو عليه من جميل الخصال ومحمود الفعال .

ألا ترى أن الملك إذا كان عالما بحاله لم يقدم الإنسان على الثناء{[22725]} الجميل منه ؟ فثبت أن الذي يحوجه إلى الثناء عليه عند الملوك جهل بحاله . ولا يجوز أن يكون الله تعالى يخفى عليه حال أحد وما هو عليه من ظواهر{[22726]} أموره وبواطنها حتى يحتاج إلى معرف يعرفه .

فبطل أن تكون الشفاعة للوجه الذي ذكروه{[22727]} ، وثبت أنها للوجه الذي ذكرناه{[22728]} .

ثم العفو والصفح عن إحلال العقوبة بمن هموا أن يعاقبوه بجريمة سبقت منهم ، ثم الشفاعة في ما بين الخلق أمر معهود ، إنما تكون عند زلات تستوجب بها العقوبة والمقت ، فيعفى عن مرتكبها بشفاعة الأخيار وأهل الرضا . فلا ينكر أن يكون الله تعالى يعفو عمن استوجب العقاب بشفاعة الأخيار وأهل الرضا والأبرار ، والله الموفق .


[22720]:في الأصل و م: نفي.
[22721]:في الأصل و م: نفي.
[22722]:في الأصل و م: نفي.
[22723]:من م، ساقطة من الأصل.
[22724]:في الأصل و م: أنه.
[22725]:في الأصل و م: البشر.
[22726]:في الأصل و م: الظواهر.
[22727]:في الأصل و م: ذكروها.
[22728]:في الأصل و م: ذكرناها.