النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (34)

قوله عز وجل : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْليسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ } .

واختلف أهل التأويل في أمره الملائكة بالسجود لآدم ، على قولين :

أحدهما : أنه أمرهم بالسجود له تَكْرِمَةً وَتَعْظِيماً لشأنِهِ .

والثاني : أَنَّهُ جعله قِبْلَةً لهم{[79]} ، فأمرهم بالسجود إلى قبلتهم ، وفيه ضرب من التعظيم .

وأصل السجود الخضوع والتضامن ، قال الشاعر :

بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبَلْقُ في حُجُرَاتِهِ *** تَرَى الأَكْمَ فِيهِ سُجَّداً لِلْحَوافِرِ{[80]}

وسمى سجود الصلاة سجوداً ، لما فيه من الخضوع والتضامن ، فسجد الملائكة لآدم طاعةً لأمر الله تعالى إلا إبليس أَبَى أن يسجُدَ له حَسَداً واستكباراً .

واختلفوا في إبليس ، هل كان من الملائكة أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : أنه كان من الملائكة ، وهذا قول ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن المسيب ، وابن جريج ، لأنه استثناء منهم ، فَدَلَّ على دخوله منهم .

والثاني : أنه ليس من الملائكة ، وإنما هو أبو الجن ، كما أن آدم أبو الإنس ، وهذا قول الحسن وقتادة وابن زيد ، ولا يمتنع جواز الاستثناء من غير جنسه ، كما قال تعالى :

{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتَّبَاعَ الظَّنِّ }[ النساء : 157 ] وهذا استثناء منقطع .

واختُلِفَ في تَسْمِيتِهِ بإبليس على قولين :

أحدهما : أنه اسم أعجمي وليس بمشتقٍّ .

والثاني : أنه اسمُ اشتقاق ، اشتُقَّ من الإبلاس وهو اليأس من الخَيْرِ ، ومنه قوله تعالى :

{ فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ }

[ الأنعام : 44 ] أي آيِسُونَ من الخير ، وقال العجَّاجُ :

يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَساً *** قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ ، وَأَبْلَسَا{[81]}

فأمَّا من ذهب إلى أن إبليس كان من الملائكة ، فاختلفوا في قوله تعالى :

{ إِلاَّ إِبْلِيسَ كان مِنَ الْجِنِّ }{[82]} لِمَ سماه الله تعالى بهذا الاسم ؟ على أربعة أقاويل :

أحدها : أنهم حي من الملائكة يُسَمَّوْن جنّاً ، كانوا من أشدِّ الملائكة اجتهاداً ، وهذا قول ابن عباس .

والثاني : أنه جعل من الجنِّ ، لأنه من خُزَّانِ الجنَّةِ ، فاشتق اسمه منها ، وهذا قول ابن مسعود .

والثالث : أنه سمي بذلك لأنه جُنَّ عن طاعة ربِّه ، وهذا قول ابن زيدٍ .

والرابع : أن الجِنِّ لكلِّ ما اجْتَنَّ فلم يظهر ، حتى إنهم سَمَّوُا الملائكة جناً لاستتارهم ، وهذا قول أبي إسحاق ، وأنشد قول أعشى{[83]} بني ثعلبة :

لَوْ كَانَ حَيٌّ خَالِد أَوْ مُعَمَّراً *** لَكَانَ سُلَيْمَان البري مِنَ الدَّهْرِ

بَرَاهُ إلهي وَاصْطَفَاهُ عِبَادُهُ *** وَمَلَّكَهُ ما بَيْنَ نُوبَا إلى مِصْرِ

وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلاَئِكِ تِسْعَةً *** قِيَاماً لَدَيْهِ يعْمَلُونَ{[84]} بِلاَ أَجْرِ

فسمَّى الملائكة جناً لاستتارهم .

وفي قوله تعالى : { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } ثلاثةُ أَقَاوِيلَ :

أحدها : أنه قد كان قبله قوم كفار ، كان إبليس منهم .

والثاني : أن معناه : وصار من الكافرين .

والثالث : وهو قول الحسن : انه كان من الكافرين ، وليس قبله كافر ، كما كان من الجنِّ ، وليس قبله جِنٌّ ، وكما تقول : كان آدم من الإنس ، وليس قبله إنسيٌّ .


[79]:- ما بين الزاويتين ساقطة من: ق.
[80]:- الأكم: الجبال الصغار، جعلها سجدا للحوافر لقهر الحوافر إياها وإنها لا تمتنع عليها.
[81]:- المكرس الذي بعرت فيه الإبل وبولت فركب بعضه بعضا. وأبلس تأتي بمعنى أيس وبمعنى تحير.
[82]:- الآية 50 من سورة الكهف.
[83]:- أعشى بني ثعلبة هو أعشى قيس.
[84]:- لديه: ساقطة من ك. في ك: يعلمون.