الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ألم تر}: ألم تنظر {إلى}، يعني فعل {الذين يزكون أنفسهم}، يعني اليهود، دخلوا بأولادهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هل لهؤلاء ذنوب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا"، فقالوا: والذي تحلف به ما نحن إلا كهيئتهم، نحن أبناء الله وأحباؤه، وما من ذنب نعمله بالنهار إلا غفر لنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا غفر لنا بالنهار، فزكوا أنفسهم.

يقول الله عز وجل: {بل الله يزكي من يشاء}: يصلح من يشاء من عباده، {ولا يظلمون}: ولا ينقصون من أعمالهم {فتيلا}، يعني الأبيض الذي يكون في شق النواة من الفتيل...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ألم تر يا محمد بقلبك الذين يزكون أنفسهم من اليهود فيبرّئونها من الذنوب، ويطرونها.

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي كانت اليهود تزكي به أنفسها؛ فقال بعضهم: كانت تزكيتهم أنفسهم قولهم: {نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُه}. وقالوا: لا ذنوب لنا... هم اليهود والنصارى، قالوا: {نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ} وقالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانع هُودا أوْ نَصَارَى}.

وقال آخرون: بل كانت تزكيتهم أنفسهم تقديمهم أطفالهم لإمامتهم في صلاتهم زعما منها أنهم لا ذنوب لهم... كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم، فتلك تزكية. وقال آخرون: بل تزكيتهم أنفسهم كانت قولهم: إن أبناءنا سيشفعون لنا ويزكوننا... وذلك أن اليهود قالوا: إن أبناءنا قد توفوا وهم لنا قربة عند الله، وسيشفعون ويزكوننا.

وقال آخرون: بل ذلك كان منهم تزكية من بعضهم لبعض.

وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى تزكية القوم الذين وصفهم الله بأنهم يزكون أنفسهم وصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا، وأنهم لله أبناء وأحباء، كما أخبر الله عنهم أنهم كانوا يقولونه، لأنه ذلك هو أظهر معانيه لإخبار الله عنهم أنها إنما كانوا يزكون أنفسهم دون غيرها.

وأما الذين قالوا: معنى ذلك: تقديمهم أطفالهم للصلاة، فتأويل لا تدرك صحته إلا بخبر حجة يوجب العلم.

وأما قوله جلّ ثناؤه: {بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ} فإنه تكذيب من الله المزكين أنفسهم من اليهود والنصارى، المبرئيها من الذنوب، يقول الله لهم: ما الأمر كما زعمتم أنه لا ذنوب لكم ولا خطايا، وإنكم برآء مما يكرهه الله، ولكنكم أهل فرية وكذب على الله، وليس المزكي من زكى نفسه، ولكنه الذي يزكيه الله، والله يزكي من يشاء من خلقه، فيطهره ويبرئه من الذنوب بتوفيقه لاجتناب ما يكرهه من معاصيه إلى ما يرضاه من طاعته.

وإنما قلنا إن ذلك كذلك لقوله جلّ ثناؤه: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ} وأخبر أنهم يفترون على الله الكذب بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله قد طهرهم من الذنوب.

{وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}: ولا يظلم الله هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه، فيبخسهم في تركه تزكيتهم، وتزكية من ترك تزكيته، وفي تزكية من زكى من خلقه شيئا من حقوقهم ولا يضع شيئا في غير موضعه، ولكنه يزكي من يشاء من خلقه، فيوفقه، ويخذل من يشاء من أهل معاصيه¹، كل ذلك إليه وبيده، وهو في كل ذلك غير ظالم أحدا ممن زكاه أو لم يزكه فتيلاً.

واختلف أهل التأويل في معنى «الفتيل»؛

فقال بعضهم: هو ما خرج من بين الإصبعين والكفين من الوسخ إذا فتلت إحداهما بالأخرى...

وأناس يقولون: الذي يكون في بطن النواة.

وأصل الفتيل: المفتول، صرف من فمفعول إلى فعيل، كما قيل: صريع ودهين من مصروع ومدهون. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جلّ ثناؤه إنما قصد بقوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} الخبر عن أنه لا يظلم عباده أقلّ الأشياء التي لا خطر لها، فكيف بما له خطر، وكان الوسخ الذي يخرج من بين أصبعي الرجل أو من بين كفيه إذا فتل إحداهما على الأخرى، كالذي هو في شقّ النواة وبطنها، وما أشبه ذلك من الأشياء التي هي مفتولة، مما لا خطر له ولا قيمة، فواجب أن يكون كل ذلك داخلاً في معنى الفتيل، إلا أن يخرج شيئا من ذلك ما يجب التسليم له مما دلّ عليه ظاهر التنزيل.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

التزكية تذم، أن يزكي أحد نفسه، لأن التزكية، هي التنزيه من العيوب كلها أو الذنوب، وذلك مما لا يسلم أحد منها، ولا يبرأ، ولا يستحق مخلوق، وذلك معنى النهي: {فلا تزكوا أنفسكم} (النجم: 32)، إذ تخرج التزكية مخرج التكبر، وذلك لجهله بنفسه بما لا يرى غيره شكل نفسه ولا مثله، فتكبر عليه. ولو عرف أنه مثله وشكله ما تكبر على أحد قط، ولا زكى نفسه... وقول الرجل: أنا مؤمن، ليس ذلك منه تزكية، إنما هو إخبار عن شيء أكرم به، والتزكية هي التي يرى ذلك من نفسه.

وقوله -أيضًا-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) ليس في إظهار الإيمان تزكية؛ لما لا يخلو من أن تظهر لمن أبى مشاركتك فيه، فعليك الإظهار بحق الدعوة إليه؛ لتدعوه إلى ما تدين به، أو هو يشاركك فيه، والتزكية -في الحقيقة- فيما يوجب تقديمك، وليس في هذا.

وأيضًا: إن القول بالإيمان ليس بمقدر عن معنى العبادة، أو سبب فيه علو من حيث ذلك، إنما هو خبر عن أمر هو في اللغة تصديق، والتصديق بأمر هو كذلك ليس بالذي يعد في الرتب، بل على كل ذلك، ولا أحد إلا وقد يؤمن بأشياء ويصدق، فليس في القول به منقبة، وكذلك ما من أحد إلا وعليه التكذيب بأمور، فلا بالتكذيب في الإطلاق لوم، ولا بالتصديق بالإطلاق مدح؛ إذ كل في ذلك، لكن الذم في تكذيب يكذب به، فيكون من حيث كذبك ذممت، ثم تتفاوت على تفاوت درجات الكذب.

ثم التصديق لو كان ثم مدح فهو بصدقه أيضًا، ولا أحد يخرج الصدق كله؛ فيصير المرء بوصفه نفسه صادقًا في شيء تزكية ومدحًا، ولا قوة إلا باللَّه.

على أن للإيمان حدًّا، وكل عبادة ذات حد، فلا امتداح ممن قد أداها بالإخبار عن الأداء، وبخاصة الفرائض منها، نحو من يقول: قد صليت الظهر، أو أديت زكاة مالي، أو حججت، أو نحو ذلك، وفيما يقول: هو بر، أو تقى، أو حبيب اللَّه -تعالى- أو نحو ذلك مما يرجع ذلك إلى ما لا يعرف حده من الخيرات، فهو بذلك يرتفع على الأمثال، ويفتخر عليهم، فيما لو كان صادقًا كان في ذلك منه إغفال عن حق ذلك، ولو كان كاذبًا كان ذلك جائزًا فيه، ممقوتًا بالكذب، واللَّه الموفق.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} اليهود والنصارى... ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله.

فإن قلت: أما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض»؟ قلت: إنما قال ذلك: حين قال له المنافقون: اعدل في القسمة، إكذاباً لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه، وشتان من شهد الله له بالتزكية، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم.

{بَلِ الله يُزَكّي مَن يَشَاءُ} إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتدّ بها لا تزكية غيره، لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية. ومعنى يزكي من يشاء: يزكي المرتضين من عباده الذين عرف منهم الزكاء فوصفهم به. {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}: أي الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم. أو من يشاء يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم. ونحوه {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} [النجم: 32].

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذا لفظ عام في ظاهره، ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود... فتقتضي هذه الآية الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل، والضمير في {يزكون} عائد على المذكورين ممن زكى نفسه أو ممن يزكيه الله تعالى، وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمهم من غير هذه الآية.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعمل أنه تعالى لما هدد اليهود بقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} فعند هذا قالوا: لسنا من المشركين، بل نحن خواص الله تعالى كما حكى تعالى عنهم أنهم قالوا: {نحن أبناء الله وأحباؤه} وحكى عنهم أنهم قالوا: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} وحكى أيضا أنهم قالوا: {لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} وبعضهم كانوا يقولون: إن آباءنا كانوا أنبياء فيشفعون لنا...

وبالجملة فالقوم كانوا قد بالغوا في تزكية أنفسهم فذكر تعالى في هذه الآية أنه لا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له... [و] التزكية في هذا الموضع عبارة عن مدح الإنسان نفسه، ومنه تزكية المعدل للشاهد، قال تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} وذلك لأن التزكية متعلقة بالتقوى، والتقوى صفة في الباطن، ولا يعلم حقيقتها إلا الله، فلا جرم لا تصلح التزكية إلا من الله، فلهذا قال تعالى: {بل الله يزكى من يشاء}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان في ذلك إشارة إلى أن المرادين بهذه الآيات من أهل الكتاب أضل الناس، وكانوا يقولون: إنهم أهدى الناس؛ عجب منهم منكراً عليهم بعد افترائهم تزكية أنفسهم فقال: {ألم تر} وأبعدهم بقوله: {إلى الذين يزكون أنفسهم} أي بما ليس لهم من قولهم {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} [البقرة: 80] وقولهم {لن يدخل الجنة لا من كان هوداً أو نصارى} [البقرة: 111] وقوله: {و يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} [آل عمران: 188] {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً} [النساء: 27] فإن إبعاد غيرهم في الميل مصحح لتزكيتهم أنفسهم بالباطل ونحو ذلك مما تقدم وغيره.

ولما كان معنى الإنكار: ليس لهم ذلك لأنهم كذبوا فيه وظلموا، أشار إليه بقوله: {بل الله} أي الذي له صفات الكمال {يزكي من يشاء} أي بما له من العلم التام والقدرة الشاملة والحكمة البالغة والعدل السوي بالثناء عليه وبخلق معاني الخير الظاهرة فيه لتنشأ عنها الأعمال الصالحة، فإذا زكي أحداً من أصفيائه بشيء كالنبوة، كان له أن يزكي نفسه بذلك حملاً على ما ينفع الناس به عن الله {ولا} أي والحال أن الذين يزكيهم أو يدسيهم لا {يظلمون فتيلاً} أي مقدار ما في شق النواة من ذلك الشيء المفتول، أي قليلاً ولا كثيراً، لأنه عالم بما يستحقون وهو الحكم العدل الغني عن الظلم، لأن له صفات الكمال.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

كانت اليهود تفاخر مشركي العرب وغيرهم بنسبهم ودينهم ويسمون أنفسهم شعب الله وكذلك النصارى. وقد حكى الله تعالى عنهم قولهم {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة:18] وقولهم: {لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} [البقرة:111] وقول اليهود خاصة {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} [البقرة:80] وكل هذا من تزكيتهم لأنفسهم وغرورهم في دينهم. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب فأنزل الله فيهم: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك. قاله السيوطي في لباب النقول.

أقول: وروى ابن جرير أيضا سبب نزولها تزكيتهم لأنفسهم بالآيات التي أشرنا إليها آنفا. وروي عن السدي أنه قال نزلت في اليهود قالت اليهود إنا نعلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل، وذكر روايات أخرى ورجح أن تزكيتهم لأنفسهم وصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا وأنهم أبناء الله وأحباؤه أما معنى {ألم تر} فقد ذكر قريبا والاستفهام للتعجيب من حالهم. وتزكية النفس تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية أي طاهرة كثيرة الخير والبركة وأصل الزكاء والزكاة النمو والبركة في الزرع ومثله كل نافع فتزكية النفس بالفعل عبارة عن تنمية فضائلها وخيراتها ولا يتم ذلك إلا باجتناب الشرور التي تعارض الخير وتعوقه وهذه التزكية محمودة وهي المرادة بقوله تعالى: {قد أفلح من زكاها} [الشمس:9] أي نفسه. وتكون بالقول وهو ادعاء الزكاء والكمال ومنه تزكية الشهود وقد أجمع العقلاء على استقباح تزكية المرء لنفسه بالقول ومدحها ولو بالحق ولتزكيتها بالباطل أشد قبحا وهذا هو المراد هنا، وهذا النوع من التزكية مصدره الجهل والغرور ومن آثاره العتو والاستكبار عن قبول الحق والانتفاع بالنصح.

وقد ردّ الله عليهم بقوله: {بل الله يزكي من يشاء} أي ليست العبرة بتزكيتكم لأنفسكم بأنكم أبناء الله وأحباؤه وأنكم لا تعذبون في النار وأنكم ستكونون أهل الجنة دون غيركم وأنكم شعب الله المختار بل الله يزكي من يشاء من عباده من جميع الشعوب والأقوام بهدايتهم إلى العقائد الصحيحة والآداب الكاملة الصالحة أو شهادة كتابه لهم بموافقة عقائدهم وآدابهم وأخلاقهم وأعمالهم لما جاء فيه {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم:32].

{ولا يظلمون فتيلا} أي ولا يظلم الله هؤلاء الذين يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه شيئا مما يستحقونه بأعمالهم ولو حقيرا كالفتيل، وقد بينا من قبل أن أصل الظلم بمعنى النقص، أي لا ينقصهم من الجزاء على أعمالهم الحسنة شيئا بعدم تزكيته إياهم لأن عدم تزكيتهم إنما تكون بعدم إتباعهم لما تكون به النفس زكية من هداية الدين والعقل ونظام الفطرة... فخذلان الملوثين برذيلة الشرك في الدنيا بالعبودية لغيرهم وغير ذلك من آثار انحطاطهم، وعذابهم في الآخرة وحرمانهم من نعيمها، لا يكون بظلم من الله عز وجل لهم، ونقصه إياهم شيئا من ثواب أعمالهم، وإنما يكون بنقصان درجات أعمالهم، وعجزها عن العروج بأرواحهم، بل بتدسيتها لنفوسهم، لتزكيتهم إياها بالقول الباطل دون الفعل {ولكل درجات مما عملوا} [الأنعام:132] كدرجات الحرارة في ميزانها ودرجات الرطوبة في ميزانها، فما كل درجة من الأولى يغلي بها الماء، ولا كل درجة منها يكون بها جليدا، ولا كل درجة من الثانية ينزل بها المطر، وكدرجات امتحان طلاب العلوم في المدارس، أو الأعمال في الحكومة لا ينال الفوز إلا بالدرجات العلى المحدد أدناها وأعلاها بالحكمة.

والعبرة بهذه الآية وما قبلها للمسلمين هي وجوب اتقاء ما هم عليه من الغرور بدينهم كما كان أهل الكتاب في عصر التنزيل وما قبله وما بعده بقرون، واتقاء مثل ما كانوا عليه من تزكية أنفسهم بالقول واحتقار من عداهم من المشركين الذي انجرّ إلى احتقار المسلمين عند ظهور الإسلام حتى كانت عاقبة ذلك الغرور وتلك التزكية الباطلة في الدنيا أن غلبهم المسلمون على أمرهم، واستولوا على أرضهم وديارهم وليعلموا أن الله العظيم الحكيم لا يحابي في سننه المطردة في نظام خلقه مسلما ولا يهوديا ولا نصرانيا لأجل اسمه ولقبه أو لانتسابه بالاسم إلى أصفيائه من خلقه بل كانت سننه حاكمة على أولئك الأصفياء أنفسهم حتى أن خاتم النبيين صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم قد شج رأسه وكسرت سنه وردي في الحفرة يوم أحد لتقصير عسكره فيما يجب من نظام الحرب، فإلى متى أيها المسلمون هذا الغرور بالانتماء إلى هذا الدين وأنتم لا تقيمون كتابه ولا تهتدون به ولا تعتبرون بما فيه من النذر، ألا ترون كيف عادت الكرة إلى تلك الأمم عليكم بعد ما تركوا الغرور واعتصموا بالعلم والعمل، بما جرى عليه نظام الاجتماع من الأسباب والسنن، حتى ملكت دول الأجانب أكثر بلادكم، وقام اليهود الآن ليجهزوا على الباقي لكم، ويستردوا البلاد المقدسة من أيديكم، ويقيموا فيها ملكهم؟؟؟ فاهتدوا بكتاب الله الحكيم وبسننه في الأمم واتركوا وساوس الدجالين الذين يبثون فيكم نزغات الشرك فيصرفونكم عن قواكم العقلية والاجتماعية وعن الاهتداء بكلام ربكم على الاتكال على الأموات، والاستمساك بحبل الخرافات، ويشغلونكم عن دينكم ودنياكم بما لم ينزله الله تعالى عليكم من الأوراد والصلوات، وما غرضهم بذلك إلا سلب أموالكم، وحفظ جاههم الباطل فيكم، أفيقوا أفيقوا، تنبهوا تنبهوا، واعلموا أن الله لم يظلم ولا يظلم أحدا فتيلا فما زال ملككم، وذهب عزكم، إلا بترك هداية ربكم، وإتباع هؤلاء الدجالين منكم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم يمضي القرآن -وهو يخوض المعركة بالجماعة المسلمة مع اليهود في المدينة- يعجب من أمر هؤلاء الخلق؛ الذين يزعمون أنهم شعب الله المختار؛ ويثنون على أنفسهم؛ ويزكونها؛ بينما هم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتطاولون على الله ورسوله -كما سبق- وبينما هم يؤمنون بالجبت والطاغوت -كما سيجيئ- كاذبين على الله في تزكيتهم لأنفسهم، وفي زعمهم أنهم مقربون إليه مهما عملوا من السوء!: (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم؟ بل الله يزكي من يشاء، ولا يظلمون فتيلا. انظر كيف يفترون على الله الكذب! وكفى به إثما مبينًا).. ودعوى اليهود أنهم شعب الله المختار هي دعواهم من قديم. وقد اختارهم الله فعلا لحمل الأمانة وأداء الرسالة، وفضلهم على العالمين في ذلك الأوان؛ وأهلك لهم فرعون وملأه، وأورثهم الأرض المقدسة.. ولكنهم هم انحرفوا بعد ذلك عن منهج الله؛ وعتوا في الأرض عتوا كبيرا، واجترحوا السيئات التي تضج منها الأرض، وأحل لهم أحبارهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحله لهم، واتبعوهم؛ ولم ينكروا عليهم حق الألوهية هذا الذي ادعوه عمليا -بهذا التحريم والتحليل- وقد بدل هؤلاء الأحبار في شريعة الله، ليرضوا ذوي السلطان والشرفاء؛ وليملقوا كذلك رغبات الجماهير وأهواءهم...

وبذلك اتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله. وأكلوا الربا.. ووهنت علاقتهم بدين الله وكتابة الذي أنزله عليهم.. وعل الرغم من ذلك كله -وغيره كثير- فقد ظلوا يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه. وأن النار لن تمسهم إلا إياما معدودة. وأنه لا يهتدي ولا يقبل عند الله إلا من كان هودا! كأن المسألة مسألة قرابة ونسب ومحاباة بينهم وبين الله -تعالى عن ذلك علوا كبيرا- فالله لا تصل بينه وبين أحد من خلقه قرابة ولا نسب؛ إنما تربط عباده به العقيدة المستقيمة والعمل الصالح، والاستقامة على منهج الله.. فمن أخل بهذا فقد غضب الله عليه. ويشتد غضبه إذا كان قد آتى الضالين الهدى فانحرفوا عنه! وما شأن هؤلاء اليهود إلا شأن من يزعمون الإسلام اليوم، ويحسبون أنهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله لا بد ناصرهم، ومخرج لهم اليهود من أرضهم.. بينما هم ينسلخون انسلاخا كاملا من دين الله الذي هو منهجه للحياة؛ فينبذونه من حياتهم؛ ولا يتحاكمون إلى كتاب الله لا في أقضيتهم ولا في اقتصادهم، ولا في اجتماعهم، ولا في آدابهم، ولا في تقاليدهم. وكل ما لهم من الإسلام أسماء المسلمين! وأنهم ولدوا في أرض كان المسلمون يسكنونها ذات يوم! ويقيمون فيها دين الله، ويحكمون منهجه في الحياة!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

تَعْجِيب من حال اليهود إذ يقولون {نحن أبناء الله وأحبّاؤه} [المائدة: 18] وقالوا: {لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً} [البقرة: 111] ونحو ذلك من إدلالهم الكاذب. وقوله: {بل الله يزكي من يشاء} إبطال لمعتقَدهم بإثبات ضدّه، وهو أنّ التزكية شهادة من الله، ولا ينفع أحداً أن يزكّي نفسه. وفي تصدير الجملة ب (بل) تصريح بإبطال تزكيتهم. وأنّ الذين زكَّوا أنفسهم لاحظّ لهم في تزكية الله، وأنّهم ليسوا ممّن يشاء الله تزكيته، ولو لم يذكر (بل) فقيل و {الله يزكّي من يشاء} لكان لهم مطمع أن يكونوا ممّن زكّاه الله تعالى...

ومعنى {ولا يظلمون فتيلاً} أي أنّ الله لم يحرمهم ما هم به أحرياء، وأنّ تزكية الله غيرهم لا تعدّ ظلماً لهم لأنّ الله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل ولا يظلِم أحداً. والفتيل: شبه خَيْط في شَقّ نواة التمرة. وقد شاع استعارته للقِلّة إذ هو لا ينتفع به ولا له مرأى واضح...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ثم يقول الحق سبحانه وتعالى عودا على هؤلاء اليهود:

{ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا 49}.

وتقدم أن أشرنا إلى قول الحق: "ألم تر"، فإن كانت الصورة التي يخاطب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرئية أمامه تكن الرؤية على حقيقتها، وإن لم تكن مرئية أمامه وكان مراد الحق سبحانه أن يعلمه بها وهي غير معاصرة لرؤياه فالحق يقول: "ألم تر "يعني: ألم تعلم، وكان العلم بالنسبة لخبر الله يجب أن يكون أصدق مما تراه العين؛ لأن العين قد تكذبه والبصر قد يخدعه، {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} و "التزكية "هي أولا: التطهير من المعايب وهذا يعني سلب النقيصة، وبعد ذلك إيجاب كمالات زائدة فيها نماء، والتزكية التي زكوا بها أنفسهم أنهم قالوا:

{نحن أبناء الله وأحباؤه} (من الآية 18 سورة المائدة).

وجاء الرد عليهم في هذه القضية بقوله الحق:

{قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق} (من الآية 18 سورة المائدة).

يعني: إن كنتم أحباءه وأبناءه فلماذا يعذبكم؟ إذن فهذه قضية باطلة، ثم ما فائدة أن تقولوها لنا؟ أنملك لكم شيئا؟ إذا كنتم تكذبونها على من يملك لكم كل شيء وهو الله سبحانه فما بالنا نحن بكم؟ والتزكية التي فعلوها أنهم مدحوا أنفسهم بالباطل وبرأوا أنفسهم من العيوب وادعوا أنهم أبناء الله وهم ليسوا أبناء الله وليسوا أحباءه، وقالوا أيضا:

{لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} (من الآية 111 سورة البقرة).

وتلك أيضا قضية باطلة، وهنا نسأل: هل إذا زكى الإنسان نفسه بحق تكون تلك التزكية مقبولة؟. نقول: علينا أن نسأل: ما المراد منها؟ إن كان المراد منها الفخر تكن باطلة، لكن تكون التزكية للنفس واجبة في أمر يحتم ذلك. مثاله: عندما تركب جماعة زورقا ويكون القائد أو من يجدف أو يمسك الشراع متوسط الموهبة، ثم قامت عاصفة ولا يقوى متوسط الموهبة على قيادتها. هنا يتقدم إنسان يفهم في قيادة الزوارق أثناء العواصف ويقول لمتوسط الموهبة: ابتعد عن القيادة فأنا أكثر فهما وكفاءة وقدرة منك على هذا الأمر ويزحزحه ويمسك القيادة بدلا منه، هذه تزكية للنفس، وهي مطلوبة؛ لأن الوقت ليس وقت تجربة، وهو يزكي نفسه بحق، إذن فهناك فرق بين التزكية بالباطل وبين التزكية بالحق.

ونحن نعلم قصة سيدنا يوسف،

{قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} (من الآية 37 سورة يوسف).

فقد زكى نفسه، لكن انظروا لماذا زكى نفسه؟ هو يريد أن يأخذ بيدهما إلى ربه هو، بدليل انه قال: {ذلكما مما علمني ربي} (من الآية 37 سورة يوسف).

إذن فالتزكية هنا مطلوبة، وقد ردها لله، وأعلن أن تلك ليست خصوصية لي، بل كل واحد من خلق الله يستطيع أن يكون مثلي: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله} (من الآية 37 سورة يوسف)... إذن فهو زكى نفسه أمامهما لكي يأخذهما إلى جانب من زكى، وهو الحق سبحانه وتعالى... فقال للملك: {اجعلني على خزائن الأرض} (من الآية 55 سورة يوسف).

إذن فقد زكى نفسه، وجاء بالحيثية:

{إني حفيظ عليم} (من الآية 55 سورة يوسف).

لأن هذه المسألة تحتاج حفظا وعلما، فهي أمر غير خاضع للتجريب، فيجرب واحد فيخيب، ويجرب آخر فيخيب، لا، إنها تحتاج لحفظ وعلم،... إذن فمتى تكون التزكية مطلوبة؟ أولا: أن تكون بحق، وأن يكون لها هدف عند من يعلم التزكية وإلى من يعطيك التزكية ويثني عليك بما فيك وما أنت أهل له فتكون هذه تزكية صحيحة؛ ولذلك يقول الحق:

{فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى 32} (من الآية 32 سورة النجم).

لأنك تزكي نفسك عند الذي سيعطي الجزاء وهو يعلم، إذن فمن الحمق أن يزكي الإنسان نفسه في غير المواقف التي يحتاج فيها الأمر إلى تزكية تكون لفائدة المسلمين لا لفائدته الخاصة، والحق يقول:

{ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا 49} (سورة النساء).

إن الحق سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فمن الممكن أن واحدا يتصنع ويتكلف في نفسه مدة من الزمن أمامك، لكن هناك أشياء أنت لا تدركها، لكن ربنا عندما يزكي تكون تزكيته عن علم وعن خبرة، ومع ذلك أحين يزكون أنفسهم، أهذه محت حسناتهم؟ لا. فعلى الرغم من أنهم زكوا أنفسهم فالحق لن يأخذهم هكذا، ويضيع حسناتهم ولكنهم" لا يظلمون فتيلا "وهذه مطلق العدالة.

ونعرف أن القرآن نزل بلسان عربي على نبي عربي، والذين باشروه أولا عرب، ونعرف أن أغلب إيحاءاته كانت متوافقة مع البيئة، وكان عندهم" النخل "وهي الشجرة المفضلة؛ لأنها شجرة لا يسقط ورقها، وكل ما فيها له فائدة، فلا يوجد شيء في النخلة إلا وفيه فائدة.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟.

فوقع الناس في شجر البادية ووقع في نفسي أنها النخلة "قال عبد الله فاستحييت، فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" وهي النخلة" قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلى من أن يكون لي كذا وكذا".

وللنخلة فوائد كثيرة، فكل ما نأخذه منها نجد له فائدة حتى الليف حولها يحمل الجريد نأخذه ونصنع منه مكانس وليفا و "مقاطف" و "كراسي". وحينما يطلب سبحانه وتعالى مثالا على شيء معنوي فهو يأتي بالشيء المحس في البيئة العربية.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

إِنّ مصدر هذا العمل هو الإِعجاب بالنفس والغرور، والعجب الذي يتجلى شيئاً فشيئاً في صورة امتداح الذات وتزكية النفس، بينما ينتهي في نهاية المطاف إِلى التكبر والاستعلاء على الآخرين. إِنّ هذه العادة الفاسدة مع الأسف من العادات الشائعة بين كثير من الشعوب والفئات والأشخاص، وهي مصدر الكثير من المآسي الاجتماعية والحروب وحالات الاستعلاء والاستعمار. إِنّ التاريخ يرينا كيف أن بعض الأمم في العالم كانت تزعم تفوقها على الشعوب والأُمم الأخرى تحت وطأة هذا الشعور والإِحساس الكاذب، ولهذا كانت تمنح لنفسها الحق في أن تستعبد الآخرين، وتتخذهم لأنفسها خولا وعبيداً. لقد كان العرب الجاهليون مع كل التخلف والانحطاط والفقر الشامل الذي كانوا يعانون منه، يرون أنفسهم «العنصر الأعلى» بل وكانت هذه الحالة سائدة حتى بين قبائلهم حيث كان بعض القبائل يرى نفسه الأفضل والأعلى. ولقد تسبب الإِحساس بالتفوق لدى العنصر الألماني والإِسرائيلي في وقوع الحروب العالمية أو الحروب المحلية.