{ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا }
عن قتادة : هم أعداء الله اليهود ، زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه ، فقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقالوا : لا ذنوب لنا ؛ ومما قال ابن زيد : قال أهل الكتاب : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ؛ ومثل هذه الآية قوله تعالى : ( . . فلا تزكوا أنفسهم هو أعلم بمن اتقى )( {[1421]} ) ؛ وأصل التزكية : التنقية والتبرئة والتنزيه ، في صحيح مسلم ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، قال : سميت ابنتي برة : فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله نهى عن هذا الاسم ، وسُميت برة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم " فقالوا : بم نسميها ؟ فقال : " سموها زينب " ؛ وكأن المنهي عنه في الآية الكريمة وفي الحديث الشريف إنما هو مدح الإنسان نفسه عجبا وافتخارا ولغير غرض صحيح مثل التحدث بنعمة الله تعالى ، أو للترغيب في الاقتداء به إن كان من أهل القدوة ؛ أما التزكي العملي الذي هو تطهير النفس وتنزيهها عن القبائح ، وتنمية حبها لنهج الخير والرشد ، والاستزادة من العمل الصالح ، فهذا هو الفلاح ، وصدق الله العظيم : ( قد أفلح من تزكى ) ( {[1422]} ) ( قد أفلح من زكاها ) ( {[1423]} ) ، وإنها لأمانة بعث بها رسولنا محمد خاتم النبيين عليه الصلوات والتسليم ، يقول مولانا – تقدست أسماؤه- : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . . ) ( {[1424]} ) ، ويقول جل وعز : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . . ) ( {[1425]} ) ، ويقول تبارك و تعالى : ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم . . ) ( {[1426]} ) ، وهي دعوة أبينا إبراهيم عليه السلام : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم . . ) ( {[1427]} ) ؛ وإن أريد بالنهي أن لا يزكي بعضنا بعضا ، كما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ويحك قطعت عنق صاحبك- يقوله مرارا- إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسبه كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا " - فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الإعجاب والكبر ، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة ، فيحمله ذلك على تضييع العمل ، وترك الازدياد من الفضل ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " ويحك قطعت عنق صاحبك " ؛ وفي الحديث الآخر : " قطعتم ظهر الرجل " حين وصفوه بما ليس فيه ؛ وعلى هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : " احثوا التراب في وجوه المداحين " أن المراد به : المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم ، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه ؛ فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله ، وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح ، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه ؛ وهذا راجع إلى النيات : ( . . والله يعلم المفسد من المصلح . . ) ( {[1428]} ) ؛ وقد مُدِحَ صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب ، ولا أمر بذلك ، كقول أبي طالب :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وكمدح العباس وحسان له في شعرهما ، ومَدحه كعب بُن زهير ، ومدح هو أيضا أصحابه ، فقال : " إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع " ؛ وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم وقولوا عبد الله ورسوله " فمعناه : لا تصفوني بما ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي ، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه ، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا ؛ وهذا يقتضي أن من رفع امرءاً فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم ؛ لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم-( {[1429]} ) ؛ { ولا يظلمون فتيلا } عن قتادة : الفتيل : الذي في شق النواة ، ) ( يعني بذلك جل ثناؤه : ولا يظلم الله هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يزكون أنفسهم ، ولا غيرهم من خلقه ، فيبخسهم من تركه تزكيتهم وتزكية من ترك تزكيته ، وفي تزكية من زكى من خلقه ، شيئا من حقوقهم ، ولا يضع شيئا في غير موضعه ، ولكنه يزكي من يشاء مِن خلقه فيوفقه ، ويخذل من يشاء من أهل معاصيه ، كل ذلك إليه وبيده ، وهو في كل ذلك غير ظالم أحدا ممن زكاه أو لم يزكه فتيلا ) ( {[1430]} ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.