فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ } تعجيب من حالهم . وقد اتفق المفسرون على أن المراد : اليهود . واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم ، فقال الحسن ، وقتادة : هو قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] وقولهم : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] وقال الضحاك : هو قولهم لا ذنوب لنا ، ونحن كالأطفال . وقيل : قولهم إن آباءهم يشفعون لهم وقيل : ثناء بعضهم على بعض . ومعنى التزكية : التطهير والتنزيه ، فلا يبعد صدقها على جميع هذه التفاسير وعلى غيرها ، واللفظ يتناول كل من زكى نفسه بحق أو بباطل من اليهود وغيرهم ، ويدخل في هذا التلقب بالألقاب المتضمنة للتزكية ، كمحيي الدين ، وعز الدين ، ونحوهما . قوله : { بَلِ الله يُزَكّي مَن يَشَاء } أي : ذلك إليه سبحانه ، فهو العالم بمن يستحق التزكية من عباده ، ومن لا يستحقها ، فليدع العباد تزكية أنفسهم ، ويفوضوا أمر ذلك إلى الله سبحانه ، فإن تزكيتهم لأنفسهم مجرد دعاوى فاسدة تحمل عليها محبة النفس ، وطلب العلوّ والترفع والتفاخر ومثل هذه الآية قوله تعالى : { فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } [ النجم : 32 ] . قوله : { وَلاَ تُظْلَمُونَ } أي : هؤلاء المزكون لأنفسهم { فَتِيلاً } وهو : الخيط الذي في نواة التمر . وقيل : القشرة التي حول النواة وقيل : هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما ، فهو : فتيل بمعنى مفتول ، والمراد هنا : الكناية عن الشيء الحقير ، ومثله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } [ النساء : 124 ] وهو : النكتة التي في ظهر النواة . والمعنى : أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم لأنفسهم بقدر هذا الذنب ، ولا يظلمون بالزيادة على ما يستحقون ، ويجوز أن يعود الضمير إلى { مَن يَشَآء } أي : لا يظلم هؤلاء الذين يزكيهم الله فتيلاً مما يستحقونه من الثواب . ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من تزكيتهم لأنفسهم ، فقال : { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ } .

/خ55