الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ قَدِ ٱسۡتَكۡثَرۡتُم مِّنَ ٱلۡإِنسِۖ وَقَالَ أَوۡلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلۡإِنسِ رَبَّنَا ٱسۡتَمۡتَعَ بَعۡضُنَا بِبَعۡضٖ وَبَلَغۡنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيٓ أَجَّلۡتَ لَنَاۚ قَالَ ٱلنَّارُ مَثۡوَىٰكُمۡ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ} (128)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله:"وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعا": ويوم يحشر هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام وغيرهم من المشركين مع أوليائهم من الشياطين الذين كانوا يوحون إليهم زخرف القول غرورا ليجادلوا به المؤمنين، فيجمعهم جميعا في موقف القيامة. يقول للجنّ: "يا مَعْشَرَ الجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ "وحذف «يقول للجنّ» من الكلام اكتفاءً بدلالة ما ظهر من الكلام عليه منه.

وعني بقوله: "قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ "استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم... عن ابن عباس: قوله: "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعا يا مَعْشَرَ الجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ" يعني: أضللتم منهم كثيرا...

"وَقالَ أوْلِياؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبّنا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا ببَعْضٍ" يقول تعالى ذكره: فيجيب أولياء الجنّ من الإنس، فيقولون: ربنا استمتع بعضنا ببعض في الدنيا. فأما استمتاع الإنس بالجنّ... عن ابن جريج، قال: كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول: أعوذ بكبير هذا الوادي فذلك استمتاعهم، فاعتذروا يوم القيامة.

وأما استمتاع الجنّ بالإنس، فإنه كان فيما ذكر، ما ينال الجنّ من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعاذتهم بهم، فيقولون: قد سدنا الجنّ والإنس.

"وَبَلَغْنا أجَلَنَا الّذِي أجّلْتَ لَنا" يقول تعالى ذكره: قالوا: وبلغنا الوقت الذي وقّت لموتنا، وإنما يعني جلّ ثناؤه بذلك أنهم قالوا: استمتع بعضنا ببعض أيام حياتنا إلى حال موتنا...

"قال النّارُ مَثْوَاكُمْ خالِدِينَ فِيها إلاّ ما شاءَ اللّهُ إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ"؛ وهذا خبر من الله تعالى ذكره عما هو قائل لهؤلاء الذين يحشرهم يوم القيامة من العادلين به في الدنيا الأوثان ولقرنائهم من الجنّ، فأخرج الخبر عما هو كائن مخرج الخبر عما كان لتقدّم الكلام قبله بمعناه والمراد منه، فقال: قال الله لأولياء الجنّ من الإنس الذين قد تقدم خبره عنهم: "النّارُ مَثْوَاكُمْ" يعني نار جهنم مثواكم الذي تثوون فيه: أي تقيمون فيه. والمثوى: هو المفعل، من قولهم: ثَوَى فلان بمكان كذا، إذا أقام فيه. "خالدينَ فِيها" يقول: لابثين فيها، إلاّ ما شاءَ اللّهُ يعني: إلا ما شاء الله من قدر مدة ما بين مبعثهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم، فتلك المدة التي استثناها الله من خلودهم في النار.

"إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ" في تدبيره في خلقه، وفي تصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال وغير ذلك من أفعاله. "عَلِيمٌ" بعواقب تدبيره إياهم، وما إليه صائر أمرُهم من خير وشرّ. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يتأوّل في هذا الاستثناء أن الله جعل أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابه إياهم إلى مشيئته...

عن ابن عباس: قالَ: "النّارُ مَثْوَاكُمْ خالِدِينَ فِيها إلاّ ما شاءَ اللّهُ إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ" قال: إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه أن لا ينزلهم جنة ولا نارا.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

"وَقالَ أوْلِياؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبّنا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا ببَعْضٍ"

وقال محمد بن كعب وعبد العزيز بن يحيى: هو طاعة بعضهم بعضاً وموافقة بعضهم بعضاً. وقيل: إستمتاع الإنس بالجن بما كانوا يأتون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة، فاستمتاع الجن بالإنس إغراء الجن الإنس واتباع الإنس إياهم...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

يعتذرون فلا يسمع، ويحتجون بما لا ينفع، ولقد كانوا من قبل لو أتوا بأقلَّ منه قُبِلَ منهم، لكنْ سبقت القسمة فحقت لهم الشقوة...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس} الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} أي انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجنّ بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم وشهوتهم في إغوائهم...

{وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا} يعنون يوم البعث، وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام لربهم وتحسر على حالهم...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

اشتمل سياق الآيات السابقة لهذه الآيات على وعيد بما أعد الله من العذاب للمجرمين ووعد بالنعيم في دار السلام للمؤمنين في إ ثر بيان أحوالهم وأعمالهم التي استحق بها كل منهما جزاءه. وقفى عليه في هذه الآيات بذكر ما يكون قبل ذلك الجزاء من الحشر وبعض ما يكون في يومه من الحساب وإقامة الحجة على الكفار، وسنة الله في إهلاك الأمم وجعل درجات الجزاء بالعمل...

{بَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا} أي وصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا وهو يوم البعث والجزاء، وقد اعترفنا بذنوبنا ولك الأمر فينا فالمراد من ذكر بلوغ الأجل لازمه وهو إظهار الحسرة والندامة على ما كان من تفريطهم في الدنيا، والاضطرار إلى تفويضهم الأمر إلى الرب جل وعلا...

ولم يذكر هنا قولا للمتبوعين من الشياطين، وعلله بعضهم بأن الاقتصار على حكاية كلام الضالين دون المضلين يؤذن بأن المضلين قد أفحموا فلم يتكلموا. والصواب أن الله تعالى يذكر لنا بعض ما يكون يوم القيامة في آي متفرقة من سور متعددة لأن المراد به وهو العظة والاعتبار ينبغي أن يكون متفرقا لما بيناه من حكمته في مواضع من هذا التفسير. وقد قال تعالى في الفريقين {ويوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا} (العنكبوت 25) وبين في سورة البقرة كيف يتبرأ بعضهم من بعض، وقال بعده {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} (البقرة 167) وحكى في سورة إبراهيم أقوال كل من الضعفاء التابعين من الناس وقول المتكبرين المتبوعين لهم وقول الشيطان للفريقين وتنصله من استحقاق الملام وكفره بما أشركوه...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لمّا ذكر ثواب القوم الّذين يتذّكرون بالآيات، وهو ثواب دار السّلام، ناسب أن يعطف عليه ذكر جزاء الّذين لا يتذكّرون، وهو جزاء الآخرة أيضاً، فجملة: {ويوم يحشرهم} إلخ معطوفة على جملة: {لهم دار السّلام عند ربّهم} [الأنعام: 127]. والمعنى: وللآخرين النّار مثواهم خالدين فيها. وقد صُوّر هذا الخبر في صورة ما يقع في حسابهم يوم الحشر، ثمّ أُفضي إلى غاية ذلك الحساب، وهو خلودهم في النّار.

وانتصب: {يومَ} على المفعول به لفعل محذوف تقديره: اذْكُر، على طريقة نظائره في القرآن، أو انتصب على الظرفيّة لفعل القول المقدّر.

والضّمير المنصوب ب {نحشرهم} عائد إلى {الذين أجرموا} [الأنعام: 124] المذكور في قوله: {سيصيب الذين آجرموا صغار عند الله}، أو إلى {الذين لا يؤمنون} [الأنعام: 125] في قوله: {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون}. وهؤلاء هم مقابل الّذين يتذكّرون، فإنّ جماعة المسلمين يُعتَبرون مخاطبين لأنّهم فريق واحد مع الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ويعتبر المشركون فريقاً مبائناً لهم بعيداً عنهم، فيتحدّث عنهم بضمير الغيبة، فالمراد المشركون الّذين ماتوا على الشّرك وأُكّد ب {جميعاً} ليعمّ كلّ المشركين، وسادتهم، وشياطينهم، وسائر عُلَقهم.

ويجوز أن يعود الضّمير إلى الشّياطين وأوليائهم في قوله تعالى: {وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم} [الأنعام: 121] إلخ.

وقرأ الجمهور: {نحشرهم} بنون العظمة على الالتفات. وقرأه حفص عن عاصم، ورَوْح عن يعقوب بياء الغيبة ولمّا أسند الحشر إلى ضمير الجلالة تعيّن أنّ النداء في قوله: {يا معشر الجن} من قِبل الله تعالى، فتعيّن لذلك إضمار قول صادر من المتكلّم، أي نقول: يا معشر الجنّ، لأنّ النّداء لا يكون إلاّ قولاً.

وجملة: {يا معشر الجن} إلخ مقول قول محذوف يدلّ عليه أسلوب الكلام، والتّقدير: نقول أو قائلين.

والمعشر: الجماعة الّذين أمرهم وشأنهم واحد، بحيث تجمعهم صفة أو عمل، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه. وهو يُجمع على معاشر أيضاً، وهو بمعناه، وهو مشتقّ من المعاشرة والمخالطة. والأكثر أن يضاف المعشر إلى اسم يبيّن الصّفة الّتي اجتمع مسمّاه فيها، وهي هنا صفة كونهم جنّاً، ولذلك إذا عُطف على ما يضاف إليه كان على تقدير تثنية معشراً وجمْعِه: فالتثنية نحو: {يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا} [الرحمن: 33] الآية، أي يا معشر الجنّ ويا معشر الإنس، والجمع نحو قولك: يا معاشر العرب والعجم والبربر.

والجنّ تقدّم في قوله: {وجعلوا لله شركاء الجنّ} في هذه السّورة (100). والمراد بالجنّ الشّياطين وأعوانهم من بني جنسهم الجنّ، والإنس تقدّم عند قوله: {شياطين الإنس والجنّ} في هذه السّورة (112).

والاستكثار: شدّة الإكثار. فالسّين والتّاء فيه للمبالغة مثل الاستسلام والاستخداع والاستكبار، ويتعدى بمن البيانية إلى الشيء المتّخذِ كثيرُه، يقال: استكثر من النَّعم أو من المال، أي أكثر من جمعهما، واستكثر الأمير من الجند، ولا يتعدّى بنفسه تفرقة بين هذا المعنى وبين استكثر الّذي بمعنى عدّ الشّيء كثيراً، كقوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} [المدثر: 6].

وقوله: {استكثرتم من الإنس} على حذف مضاف، تقديره: من إضلال الإنس، أو من إغوائهم، فمعنى {استكثرتم من الإنس} أكثرتم من اتّخاذهم، أي من جعلهم أتباعاً لكم، أي تجاوزتم الحدّ في استهوائهم واستغوائهم، فطوّعتم منهم كثيراً جداً.

والكلام توبيخ للجنّ وإنكار، أي كان أكثر الإنس طوعاً لكم، والجنّ يشمل الشّياطين، وهم يغوون النّاس ويطوّعونهم: بالوسوسة، والتخييل، والإرهاب، والمسّ، ونحو ذلك، حتّى تَوهّم النّاس مقدرتهم وأنّهم محتاجون إليهم، فتوسّلوا إليهم بالإرضاء وترك اسم الله على ذبائحهم وفي شؤونهم، وحتّى أصبح المسافر إذا نزل وادياً قال: « أعوذ بسَيِّد هذا الوادي، أو بربّ هذا الوادي، يعني به كبير الجنّ، أو قال: يَا ربّ الوادي إنِّي أستجير بك» يعني سيّدَ الجنّ. وكان العرب يعتقدون أنّ الفيافي والأودية المتّسعة بين الجبال معمورة بالجنّ، ويتخيّلون أصوات الرّياح زَجل الجنّ...

وفي الكلام تعريض بتوبيخ الإنس الّذين اتَّبعوهم، وأطاعوهم، وأفرطوا في مرضاتهم، ولم يسمعوا مَن يدعوهم إلى نبذ متابعتهم، كما يدلّ عليه قوله الآتي: {يا معشر الجنّ والإنس ألم يأتكم رسل منكم} [الأنعام: 130] فإنَّه تدرّج في التّوبيخ وقطععِ المعذرة.

والمراد بأوليائهم أولياء الجنّ: أي الموالون لهم، والمنقطعون إلى التعلّق بأحوالهم. وأولياء الشّياطين هم المشركون الّذين وافوا المحشر على الشّرك. وقيل: أريد به الكفّار والعصاة من المسلمين، وهذا باطل لأنّ العاصي وإن كان قد أطاع الشّياطين فليس وليّاً لها {اللَّهُ ولي الذين آمنوا} [البقرة: 257] ولأنّ الله تعالى قال في آخر الآية: {ألم يأتكم رسل منكم} [الأنعام: 130] وقال: {وشَهِدوا على أنفسهم أنَّهم كانوا كافرين}.

و {من الإنس} بيان للأولياء. وقد اقتصر على حكاية جواب الإنس لأنّ النّاس المشركين هم المقصود من الموعظة بهذه الآية.

ومعنى: {استمتع بعضنا ببعض} انتفع وحَصّل شهوته وملائِمَهُ: أي استمتع الجنّ بالإنس، وانتفع الإنس بالجنّ، فكلّ بعض مراد به أحد الفريقين لأنَّه بعض مجموع الفريقين. وإنَّما قالوا: استمتع بعضنا ببعض، ولم يكن الإنس هم المخاطبين بالتّوبيخ، لأنَّهم أرادوا الاعتذار عن أوليائهم من الجنّ ودفع التّوبيخ عنهم، بأنّ الجنّ لم يكونوا هم المستأثرين بالانتفاع بتطويع الإنس، بل نال كلّ من الفريقين انتفاعاً بصاحبه، وهؤلاء المعتذرون يحتمل أنّهم أرادوا مشاطرة الجناية إقراراً بالحقّ، وإخلاصاً لأوليائهم، أو أرادوا الاعتذار عن أنفسهم لما علموا من أن توبيخ الجنّ المُغوين يُعرّض بتوبيخ المغوَيْن بفتح الواو. فأقرّوا واعتذروا بأنّ ما فعلوه لم يكن تمرّداً على الله، ولا استخفافاً بأمره، ولكنّه كان لإرضاء الشّهوات من الجانبين، وهي المراد بالاستمتاع.

ولكونهم ليسوا بمخاطبين ابتداء. وكون كلامهم دخيلاً في المخاطبة، لم تفصل جملة قولهم كما تفصل جملة المحاورة في السؤال والجواب، بل عطفت على جملة القول المقدّر لأنَّها قول آخر عَرض في ذلك اليوم.

وجيء في حكاية قولهم بفعل {وقال أولياؤهم} مع أنّه مستقبل من أجللِ قوله: {يحشرهم} تنبيها على تحقيق وقوعه، فيعلم من ذلك التّنبيه على تحقيق الخبر كلّه، وأنّه واقع لا محالة، إذ لا يكون بعضه محقّقاً وبعضه دون ذلك.

واستمتاع الإنس بالجنّ هو انتفاعهم في العاجل: بتيسير شهواتهم، وفتح أبواب اللّذّات والأهواء لهم، وسلامتهم من بطشتهم. واستمتاع الجنّ بالإنس: هو انتفاع الجنّ بتكثير أتباعهم من أهل الضّلالة، وإعانتُهم على إضلال النّاس، والوقوفُ في وجه دعاة الخير، وقطع سبيل الصّلاح، فكلّ من الفريقين أعان الآخر على تحقيق ما في نفسه ممّا فيه ملائم طبعه وارتياحه لقضاء وطره.

وقوله: {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} استسلام لله، أي: انقضَى زمن الإمهال، وبلغْنا الأجلَ الذي أجلَّت لنا للوقوع في قبضتك، فسُدّت الآن دوننا المسالكُ فلا نجد مفرّاً. وفي الكلام تحسّر وندامة. عند ظهور عدم إغناء أوليائهم عنهم شيئاً، وانقضاء زمن طغيانهم وعتوّهم، ومَحين حِين أن يَلْقَوا جزاء أعمالهم كقوله: {ووجد الله عنده فوفّاه حسابه} [النور: 39].

وقد أفادت الآية: أنّ الجنّ المخاطبين قد أُفحموا، فلم يجدوا جواباً، فتركوا أولياءهم يناضلون عنهم، وذلك مظهر من مظاهر عدم إغناء المتبوعين عن أتباعهم يومئذٍ {إذ تَبرّأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا} [البقرة: 166].

وجملة: {قال النار مثواكم} فصلت عن الّتي قبلها على طريقة القول في المحاورة، كما تقدّم عند قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة البقرة (30).

وضمير الخطاب في قوله: النار مثواكم} موجَّه إلى الإنس فإنَّهم المقصود من الآية، كما في قوله تعالى: {بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مؤمنون فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النّار التي كنتم بها تكذّبون} [سبأ: 41، 42] وقوله: {وتمَّت كلمة ربّك لأملأن جهنّم من الجِنّة والنّاسِ أجمعين} [هود: 119].

ومجيء القول بصيغة الماضي: للتّنبيه على تحقيق وقوعه وهو مستقبل بقرينة قوله: {يحشرهم} كما تقدّم. وإسناده إلى الغائب نظرٌ لما وقع في كلام الأولياء: {ربنا استمتع} إلخ.

والمثوى: اسم مكان من ثَوى بالمكان إذا أقام به إقامةَ سكنى أو إطالة مكث، وقد بيّن الثّواء بالخلود بقوله: {خالدين فيها}.

وقوله: {خالدين فيها} هو من تمام ما يقال لهم في الحشر لا محالة، لأنَّه منصوب على الحال من ضمير مثواكم، فلا بدّ أن يتعلّق بما قبله.

وأمّا قوله: {إلا ما شاء الله} فظاهر النظم أنّه من تمام ما يقال لهم. لأنّ الأصل في الاستثناء أن يكون إخراجاً ممّا قبله من الكلام. ويجوز أن يكون من مخاطبة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وقع اعتراضاً بين ما قصّه عليه من حال المشركين وأوليائهم يوم الحشر، وبين قوله له: {إن ربك حكيم عليم} ويكون الوقف على قوله: {خالدين فيها}.

والاستثناء في قوله: {إلا ما شاء الله} على التّأويلين استثناء إمَّا من عموم الأزمنة الّتي دلّ عليها قوله: {خالدين فيها} إذ الخلود هو إقامة الأبد والأبَد يعمّ الأزمان كلّها، ف (ما) ظرفية مصدرية فلذلك يكون الفعل بعدها في تأويل مَصدر، أي إلاّ وقت مشيئة الله إزالة خلودكم، وإمَّا من عموم الخالدين الّذي في ضمير {خالدين} أي إلاّ فريقاً شاء الله أن لا يخلدوا في النّار.

وبهذا صار معنى الآية موضع إشكال عند جميع المفسّرين، من حيثُ ما تقرّر في الكتاب والسنّة وإجماع الأمّة؛ أنّ المشركين لا يُغفر لهم وأنَّهم مخلّدون في النّار بدون استثناء فريق ولا زمان.

وقد أحصَيْتُ لهم عشرة تأويلات، بعضها لا يتمّ، وبعضها بعيد إذا جُعل قوله: {إلا ما شاء الله} من تمام ما يقال للمشركين وأوليائهم في الحشر، ولا يستقيم منها إلاّ واحد، إذا جعل الاستثناء معترَضاً بين حكاية ما يقال للمشركين في الحشر وبين ما خوطب به النّبي صلى الله عليه وسلم فيكون هذا الاعتراض خطاباً للمشركين الأحياءِ الّذين يسمعون التّهديد، إعذاراً لهم أن يسلموا، فتكون (ما) مصدرية غير ظرفية: أي إلاّ مشيئة الله عدمَ خلودهم، أي حالَ مشيئته. وهي حال توفيقه بعض المشركين للإسلام في حياتهم، ويكون هذا بياناً وتحقيقاً للمنقول عن ابن عبّاس: استثنى الله قوماً سبق في علمه أنَّهم يُسلمون. وعنه أيضاً: هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار، وإذا صح ما نقل عنه وجب تأويله بأنه صدر منه قبل علمه بإجماع أهل العلم على أنّ المشركين لا يغفر لهم.

ولك أن تجعل (ما) على هذا الوجه موصولة، فإنَّها قد تستعمل للعاقل بكثرة. وإذا جعل قوله: {خالدين} من جملة المقول في الحشر كان تأويل الآية: أنّ الاستثناء لا يقصد به إخراج أوقات ولاَ حالةٍ، وإنَّما هو كناية، يقصد منه أنّ هذا الخلود قدّره الله تعالى، مختاراً لا مكره له عليه، إظهاراً لتمام القدرة ومحض الإرادة، كأنَّه يقول: لو شئت لأبطلتُ ذلك. وقد يعْضد هذا بأنّ الله ذكر نظيره في نعيم أهل الجنّة في قوله: {فأمَّا الذين شَقُوا ففي النّار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إلاّ ما شاء ربّك إنّ ربّك فعَّال لما يريد وأمّا الذين سعِدوا ففي الجنّة خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إلاّ ما شاء ربّك عطاء غير مجذوذ} [هود: 106، 108] فانظر كيف عقّب قوله: {إلا ما شاء ربّك} في عقاب أهل الشّقاوة بقوله: {إنّ ربّك فعَّال لما يريد} [هود: 107] وكيف عقَّب قوله: {إلا ما شاء ربّك} في نعيم أهل السّعادة بقوله: {عَطاء غير مجذوذ} [هود: 108] فأبْطل ظاهر الاستثناء بقوله: {عطاء غير مجذوذ} فهذا معنى الكناية بالاستثناء، ثمّ المصير بعد ذلك إلى الأدلّة الدّالة على أنّ خلود المشركين غيرُ مخصوص بزمن ولا بحال.

ويَكونُ هذا الاستثناء من تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه.

وقوله: {إن ربك حكيم عليم} تذييل، والخطاب للنّبي صلى الله عليه وسلم فإن كان قوله: {خالدين فيها إلا ما شاء الله} من بقية المقول لأولياء الجنّ في الحشر كان قوله: {إن ربك حكيم عليم} جملة معترضة بين الجمل المقولة، لبيان أنّ ما رتّبه الله على الشرّك من الخلود رتّبه بحكمته وعِلْمه، وإن كان قوله: {خالدين} إلخ كلاماً مستقلاً معترضاً كان قوله: {إن ربك حكيم عليم} تذييلاً للاعتراض، وتأكيداً للمقصود من المشيئة من جعل استحقاق الخلود في العذاب منوطاً بالموافاة على الشّرك. وجَعْل النّجاة من ذلك الخلودِ منوطة بالإيمان.

والحكيم: هو الّذي يضع الأشياء في مناسباتها، والأسباب لمسبّباتها. والعليم: الّذي يعلم ما انطوى عليه جميع خلقه من الأحوال المستحقّة للثّواب والعقاب.