إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ قَدِ ٱسۡتَكۡثَرۡتُم مِّنَ ٱلۡإِنسِۖ وَقَالَ أَوۡلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلۡإِنسِ رَبَّنَا ٱسۡتَمۡتَعَ بَعۡضُنَا بِبَعۡضٖ وَبَلَغۡنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيٓ أَجَّلۡتَ لَنَاۚ قَالَ ٱلنَّارُ مَثۡوَىٰكُمۡ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ} (128)

{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } منصوبٌ بمضمر إما على المفعولية أو الظرفية وقرئ بنون العظمة على الالتفات لتهويل الأمرِ ، والضميرُ المنصوبُ لمن يُحشر من الثقلين ، أي واذكر يومَ يَحشُر الثقلين قائلاً : { يَا مَعْشَرَ الجن } أو ويوم يحشُرهم يقول : يا معشرَ الجنِّ أو ويوم يحشرهم ويقول : يا معشرَ الجن يكونُ الأحوالُ والأهوالُ ما لا يساعدُه الوصفُ لفظاعته ، والمعشرُ الجماعةُ ، والمرادُ بمعشر الجنِّ الشياطينُ { قَدِ استكثرتم منَ الإنس } أي من إغوائهم وإضلالِهم أو منهم بأن جعلتموهم أتباعَكم فحُشِروا معكم كقولهم : استكثر الأميرُ من الجنود ، وهذا بطريق التوبيخِ والتقريع { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم } أي الذين أطاعوهم ، و( مِن ) في قوله تعالى : { منَ الإنس } إما لبيان الجنسِ أي أولياؤُهم الذين هم الإنسُ أو متعلقةٌ بمحذوف هو حالٌ من أولياؤهم أي كائنين من الإنس { رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي انتفع الإنسُ بالجن بأن دلُّوهم على الشهوات وما يُتوصَّل به إليها ، وقيل : بأن ألقَوْه إليهم من الأراجيف والسِّحر والكهانة والجن بالإنس بأن أطاعوهم وحصّلوا مرادَهم بقَبول ما ألقَوْه إليهم ، وقيل : استمتاعُ الإنسِ بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز والمخاوفِ واستمتاعُهم بالإنس اعترافُهم بأنهم قادرون على إجارتهم { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا } وهو يومُ القيامة قالوه اعترافاً بما فعلوه من طاعة الشياطينِ واتباعِ الهوى وتكذيبِ البعث ، وإظهاراً للندامة عليها وتحسراً على حالهم واستسلاماً لربهم ، ولعل الاقتصارَ على حكاية كلامِ الضالّين للإيذان بأن المُضلِّين قد أُفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً . { قَالَ } استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من حكاية كلامِهم كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى حينئذ ؟ فقيل : قال : { النار مَثْوَاكُمْ } أي منزِلُكم أو ذاتُ ثوائِكم كما أن دارَ السلام مثوى المؤمنين { خالدين فِيهَا } حال والعاملُ مثواكم إن جُعل مصدراً ، ومعنى الإضافة إن جُعل مكاناً { إِلاَّ مَا شَاء الله } قال ابن عباس رضي الله عنهما : استثنى الله تعالى قوماً قد سبق في علمه أنهم يُسلمون ويصدِّقون النبيَّ عليه الصلاة والسلام ، وهذا مبنيٌّ على أن الاستثناءَ ليس من المحكيّ ، و( ما ) بمعنى مَنْ وقيل : المعنى إلا الأوقاتَ التي يُنقلون فيها من النار إلى الزمهرير ، فقد رُوي أنهم يدخُلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميِّزُ{[236]} بعضَ أوصالِهم من بعض فيتعاوَوْن{[237]} ويطلُبون الردَّ إلى الجحيم وقيل : يفتح لهم وهم في النار بابٌ إلى الجنة فيُسرعون نحوه حتى إذا صاروا إليه سُدَّ عليهم الباب . وعلى التقديرين فالاستثناءُ تهكّمٌ بهم وقيل : إلا ما شاء الله قبل الدخولِ كأنه قيل : النارُ مثواكم أبداً إلا ما أمهلكم ولا يخفى بعدُه { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } في أفاعيله { عَلِيمٌ } بأحوال الثقلين{[238]} وأعمالِهم وبما يليق بها من الجزاء .


[236]:ميز الشيء: عزله وفرزه.
[237]:أي يتصايحون فيما ينهم. ويمكن أن يكون المراد يجتمعون على طبب شيء من قولهم: تعاون بنو فلان على فلان، اجتمعوا عليه.
[238]:الثقلان: الإنس والجن.