30- ترك اليهود الوحدانية في عقيدتهم ، وقالوا : عزيز{[81]} ابن الله ، وترك النصارى الوحدانية كذلك ، فقالوا : المسيح ابن الله . وقولهم هذا مبتدع من عندهم ، يرددونه بأفواههم ولم يأتهم به كتاب ولا رسول ، وليس عليهم حُجة ولا برهان ، وهم في هذا القول يشابهون قول المشركين قبلهم ، لعن الله هؤلاء الكفار وأهلكهم . عجباً لهم كيف يضلون عن الحق وهو ظاهر ، ويعدلون إلى الباطل .
قوله تعالى : { قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } ، روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود : سلام بن مشكم ، والنعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله ؟ فأنزل الله عز وجل : { وقالت اليهود عزير ابن الله } . قرأ عاصم والكسائي ويعقوب عزير بالتنوين والآخرون بغير تنوين ، لأنه اسم أعجمي ويشبه اسما مصغرا ، ومن نون قال : لأنه اسم خفيف ، فوجهه أن يصرف ، وإن كان أعجميا مثل نوح وهود ولوط . واختار أبو عبيدة التنوين وقال : لأن هذا ليس بمنسوب إلى أبيه ، إنما هو كقولك زيد ابن الأمير وزيد ابن أختنا ، فعزيز مبتدأ وما بعده خبر له . وقال عبيد بن عمير : إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء ، وهو الذي قال : { إن الله فقير ونحن أغنياء } [ آل عمران – 181 ] . وروى عطية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما قالت اليهود عزير ابن الله من أجل أن عزيرا كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم ، فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق ، فرفع الله عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ، فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم ، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله تعالى نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه التوراة فأذن في قومه ، وقال : يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها إلي ! فعلق به الناس يعلمهم ، فمكثوا ما شاء الله تعالى ، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم ، فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير فوجدوه مثله ، فقالوا : ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله .
وقال الكلبي : أن يختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة ، وكان عزير إذ ذاك صغيرا ، فاستصغره فلم يقتله ، فلما رجع بنو إسرائيل إلى البيت المقدس وليس فيهم مائة سنة ، يقال : أتاه ملك بإناء فيه ماء ، فسقاه ، فمثلت التوراة في صدره ، فلما أتاهم قال : أنا عزير ، فكذبوه وقالوا : إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة ؟ فكتبها لهم ، ثم إن رجلا قال : إن أبي حدثني عن جدي ، أن التوراة جعلت في خابية ، ودفنت في كرم ، فانطلقوا معه حتى أخرجوها ، فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منها حرفا ، فقالوا : إن الله يقذف التوراة في قلب رجل إلا أنه ابنه ، فعند ذلك قالت اليهود : عزير ابن الله وأما النصارى فقالوا : المسيح ابن الله ، وكان السبب فيه أنهم كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى عليه السلام يصلون إلى القبلة ، ويصومون رمضان ، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال به بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام ، ثم قال لليهود : إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا به والنار مصيرنا ، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة دخلنا النار ، فإني أحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار ، وكان له فرس يقال له العقاب يقاتل عليه فعرقب فرسه وأظهر الندامة ، ووضع على رأسه التراب ، فقال له النصارى : من أنت ؟ قال : بولص عدوكم ، فنوديت من السماء : ليست لك توبة إلا أن تتنصر ، وقد ثبت . فأدخلوه الكنيسة ، ودخل بيتا سنة لا يخرج منه ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل ، ثم خرج وقال : نوديت أن الله قبل توبتك ، فصدقوه وأحبوه ، ثم مضى إلى بيت المقدس ، واستحلف عليهم نسطورا وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوات والناسوت ، وقال : لم يكن عيسى بإنس ولا بجسم ، ولكنه ابن الله ، وعلم ذلك رجلا يقال له يعقوب ثم دعا رجلا يقال له ملكان فقال له : إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا ، وقال لكل واحد منهم : أنت خالصتي ، وقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني . وقال لكل واحد منهم : إني غدا أذبح نفسي ، فادع الناس إلى نحلتك . ثم دخل المذبح فذبح نفسه وقال : إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى ، فلما كان يوم ثالثة دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته ، فتبع كل واحد طائفة من الناس ، فاختلفوا واقتتلوا فقال الله عز وجل : { وقالت النصارى المسيح ابن الله } .
قوله تعالى : { ذلك قولهم بأفواههم } ، يقولون بألسنتهم من غير علم . قال أهل المعاني : لم يذكر الله تعالى قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زورا .
قوله تعالى : { يضاهئون } ، قرأ عاصم بكسر الهاء مهموزا ، والآخرون بضم الهاء غير مهموز ، وهما لغتان يقال : ضاهيتة وضاهأته ، ومعناهما واحد . قال ابن عباس رضي الله عنه : يشابهون . والمضاهاة المشابهة . وقال مجاهد : يواطئون . وقال الحسن : يوافقون .
قوله تعالى : { قول الذين كفروا من قبل } ، قال قتادة والسدي : ضاهت النصارى قول اليهود من قبل ، فقالوا : المسيح ابن الله ، كما قالت اليهود عزير ابن الله ، وقال مجاهد : يضاهئون قول المشركين من قبل الذين كانوا يقولون اللات والعزى ومناة بنات الله . وقال الحسن : شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة كما قال في مشركي العرب : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } [ البقرة-188 ] . وقال القتيبي : يريد أن من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أولهم ، { قاتلهم الله } ، قال ابن عباس : لعنهم الله . وقال ابن جريح : أي : قتلهم الله . وقيل : ليس هو على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب .
قوله تعالى : { أنى يؤفكون } ، أي : يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه .
{ وقالت اليهود عُزير ابن الله } إنما قاله بعضهم من متقدميهم أو ممن كانوا بالمدينة ، وإنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة ، وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظا فتعجبوا من ذلك وقالوا : ما هذا إلا أنه ابن الله . والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب . وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب " عزيزُ " بالتنوين على أنه عربي مخبر عنه بابن غير موصوف به وحذفه في القراءة الأخرى إما لمنع صرفه للعجمة والتعريف ، أو لالتقاء الساكنين تشبيها للنون بحروف اللين أو لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا أو صاحبنا وهو مزيف لأنه يؤدي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدر . { وقالت النصارى المسيح ابن الله } هو أيضا قول بعضهم ، وإنما قالوه استحالة لأن يكون ولد بلا أب أو لأن يفعل ما فعله من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى من لم يكن إلها . { ذلك قولهم بأفواههم } إما تأكيد لنسبة هذا القول إليهم ونفي للتجوز عنها ، أو إشعار بأنه قول مجرد عن برهان وتحقيق مماثل للمهمل الذي يوجد في الأفواه ولا يوجد مفهومه في الأعيان . { يُضاهئون قول الذين كفروا } أي يضاهي قولهم قول الذين كفروا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . { من قبل } أي من قبلهم والمراد قدماؤهم على معنى أن الكفر قديم فيهم ، أو المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله ، أو اليهود على أن الضمير للنصارى ، والمضاهاة المشابهة والهمز لغة فيه . وقرأ به عاصم ومنه قولهم امرأة ضهيأ على فعيل للتي شابهت الرجال في أنها لا تحيض . { قاتلهم الله } دعاء عليهم بالإهلاك فإن من قاتله الله هلك ، أو تعجب من شناعة قولهم . { أنّى يؤفكون } كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل .